7‏/10‏/2012

قطبا الحرب الباردة في لبنان

عطوي
هنيئاً للشعب اللبناني البطل دخوله عالم القطبية الدولية، فقد أضحى طرفا النزاع على الأرض اللبنانية قطبين اقليميين بامتياز يديران حرباً باردة بينهما بدم شعب آخر وبوقود يجعلهما يظنان انهما خارجان من اللعبة بأقل الخسائر المُمكنة.
منذ سنوات سبع تقريباً كان فريقا 8 و14 آذار أداتين لأطراف صراع متعددة تبدأ من دمشق ولا تنتهي لا في واشنطن ولا في موسكو ولا في طهران. انغمس الطرفان في لعبة الأمم حتى الثمالة وسيلان الدم البرئ في الأزقة، وأعطيا كل ما لديهما من زخم من أجل انجاح لاعبيهما على رقعة الشطرنج الدولية، تحت شعارات محلية بحتة، توزعت بين السيادة والحرية والاستقلال والكرامة الوطنية وحفظ سلاح المقاومة والممانعة.
اللبنانيون الذين لا ناقة لهم ولا جمل في هذا الصراع الاقليمي الدولي، هم من كان يدفع الثمن. بعضهم صدّق الشعارات واعتبر نفسه شهيداً أو مشروع شهيد على طريق تحقيق الُمثل العليا التي تصدح بها حناجر “الكبار” على منابر الفتن والمصالح الفئوية الضيقة. وبعضهم فضّل النأي بالنفس لكنه دفع الثمن عن طريق الخطأ كما كل أبرياء العالم الذين يتحولون الى أسهل ضحية على مذبح المجرمين، في ظل حرص المتورطين على أمنهم الشخصي وحفظ أرواحهم وممتلكاتهم.
صدّق اللبنانيون شعارات مجرمي الحرب السابقة والفاسدين وناهبي المال العام من أقصى 8 آذار حتى أدنى 14 آذار، وتركوا العنان لمخيلاتهم في نسج حكايا المؤامرات كل عن الطرف الخصم، حتى باتت الأمور متشابكة ومتشابهة الى حد التطابق في قذارة كل طرف من الطرفين. الطرف الثالث الذي نأى بنفسه لم يكن فقط من أصحاب مقولة “جنب الحيط وبا ربي السترة”، بل منهم مجاهدون ومناضلون من أجل تحقيق الحريّة والكرامة ورغيف الخبز والغاء الطائفية واستمرار المقاومة ضد اسرائيل ومن خلفها الامبريالية الدولية بكافة الأشكال، حتى لو كان الشعار بقاء السلاح مع فئة طائفية مثل حزب الله.
هذا المناخ بدأ بالتبدل مع حلول الربيع العربي، فأصبح اللبنانيون قوى عظمى وتحولوا من كونهم أحجاراً على رقعة الشطرنج الى لاعبين محترفين في شؤون المنطقة. انقسم اللبنانيون بين مؤيد لنظام الاستبداد السوري بقيادة بشار الأسد وبين داعم للمعارضة المُسلّحة بكافة أشكالها.
وفي ظل سياسة رسمية تقول بالنأي بالنفس عما يحدث على أرض الشقيقة الغالية، تحوّل في لبنان أصدقاء الرئيس المصري الراحل حسني مبارك ونظراؤه من حكام مستبدين في الأردن ودول الخليج الى مزايدين على صانعي الربيع العربي، ونسي اللبنانيون الذين يؤمنون بسمير جعجع وأمين جميل وفؤاد السنيورة وسعد الحريري، أن أحبارهم كانوا من أعز أصدقاء بشار الأسد وحسني مبارك والرئيس التونسي زين العابدين بن علي اللاجئ على ارض شقيقتهم الكبرى في أرض الحرمين، حيث لا تزال سياسة قطع الرؤوس وسيلة الاعدام الوحيدة للأجانب الفقراء فقط من دون “أشراف المملكة”، وحيث لا تزال المرأة ممنوعة من قيادة السيارة.
وعلى الضفة الأخرى، أصبحت مسوّغات العمل المقاوم ضد اسرائيل سبباً للدفاع عن أنظمة قمعية استبدادية في دمشق وطهران، وأصبح كل الربيع العربي في نظر هؤلاء، صنيعة حلف شمال الأطلسي والولايات المتحدة واسرائيل (كما اعتدنا ان نسمع معزوفة الممانعة عن المؤامرة). ونسي هؤلاء أنهم كانوا يمجّدون ويقدّسون فقهاء الاحتلال في العراق منذ سنوات ويغفرون أخطاءهم باستقدام جحافل جيوش الشيطان الأكبر الى بلاد الرافدين، بحجة ظلم نظام صدام حسين. ومن يعرف النظام البعثي بشقيه السوري والعراقي أكثر من اللبنانيين الذين توزعوا في ولائهم بين بغداد ودمشق منذ عقود؟ لقد كان البعث بشقيّه ولا يزال في سوريا أسوأ الأنظمة العربية وأكثرها نموذجاً للتخلف والرجعية والاستبداد. من هنا بدأت تظهر المغالطات بين فريقين تحولا الى قطبين اقليميين يديران دفة الصراع على أرض الشام.
مغالطات بين من يؤمن بأن ثورة البحرين ثورة مُحقة وثورة سوريا وليبيا ومصر هي امتداد للمؤامرات الخارجية، وبين من يؤمن بأن شعب البحرين والسعودية الشيعي لا يحق له التظاهر والمطالبة بأبسط حقوقه المدنية بينما للشعب السوري حقه في تسليح ثورته وسفك الدماء الى يوم القيامة تحت شعار التخلص من نظام بشار أسد.
وفيما كانت الأمور تقتصر على بعض الزكزكات والمناوشات البسيطة بين الطرفين في لبنان، ولعل أخطرها بين جبل محسن وباب التبانة في طرابلس، كانت المعركة تستعر في سوريا بدعم من فريقي شهر آذار في بلاد الأرز. حزب الله ومن معه يقاتلون أو يدعمون بالسلاح والمواقف السياسية النظام السوري، وتيار المستقبل ومن معه من افرازات الاسلام السياسي والمسيحية السياسية يدعمون ويمولون وربما يشاركون بعناصر بشرية على الأرض الى جانب الجيش السوري الحر.
الفريق الأول ينفذ برنامج عمله بما يتماهى مع استراتيجيات “حلف وارسو” الذي يضم ايران وسوريا وروسيا والصين وفنزويلا وكوبا، والفريق الآخر ينفّذ استراتيجيات حلف الأطلسي الذي يضم الولايات المتحدة وتركيا ومعظم الدول العربية والمنظومة الأوروبية.
هذا هو المشهد الحقيقي في لبنان القطب العالمي بامتياز، قطب تحوّل من كونه وقوداً على مر عقود لحروب الآخرين الى مساحة شاسعة تدير الحرب الباردة في لبنان والعالم لكن بسخونة لاذعة على أرض الشقيقة سوريا.
لقد دفع الاتحاد السوفياتي ثمناً باهظاً لدخوله الحرب الباردة ضد الولايات المتحدة، وخسر أهم نظام يقوم على العدالة الاجتماعية حين حوله الى نظام ديكتاتوري بفعل الخوف من الاختراق. واليوم يعيد قطبا الحرب الباردة في لبنان السيناريو نفسه الذي لن يكون ثمنه فقط سقوط نظام أو تفكك منظومة انما سقوط كل ما تبقى من قيم أخلاقية قد تتحلى بها السياسة أحياناً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق