31‏/12‏/1999

رائحة طازجة



معمر عطوي

في تلك الليلة ، كان المقاتلون قد رحلوا عبر البحار بكوفياتهم الكنعانية الاصيلة واسلحتهم الفردية التي كانت تناجي السحاب ، تصرخ ناعية ً الكفاح المسلح فيمسح المقاتل دمعها بكف ٍ متخشنة ونظرة لا تخلو من الخجل . بقيت البيوت عارية الا من الشعارات ، التي بدت كفسيفساء سياسية تنطق حينا بالمزايدات واحيانا بالاتهامات واخرى بان الطلريق الوحيد هو البندقية. الطريق الذي رحل نحو المغرب عكس وجهة البوصلة.
كان كلب الحي يعوي بصوته الغريب الذي تميزه بحة واضحة ، وكان رفيقي قد ترك كوفيته في منزلي وذهب لينام ، هناك حيث العتمة والاحجار المتراصة كبيوت قطعان الماعز . منزله الوقتي ريثما يتم تنفيذ قرار العودة.
حدثني رفيقي في تلك الليلة ، عن رجال ملثمين رحلوا تحت جنح الظلام .حدثني عن هدير اليات وقرقعة صلبان ورائحة فؤوس ، كانت تطوق المخيم منكل جانب ، حدثني عن وجوه جديدة وأخرى مألوفة ، كانت تنظر الى النساء والاطفال بسخرية وتهكم ،بشبق مغلف بالحقد القومي ومقولات نقاوة العرق...
ترك كوفيته ومشى نحو منزله البائس ، فيما غطت عيناي في نوم عميق . كانت ليلتي سوداء كما كان الوطن . كان اللون الاحمر يصبغ خيوط احلامي...
لمحت رفيقي صاحب الكوفية ، أكثر من ألف مرة يمد يده نحوي لاناوله امانته فيختفي ، ثم يعود وما يلبث ليختفي . الدخان يغطي المشهد وأصوات القذائف تكاد تسد أذني . وبين لحظة سقوط قذيفة وانطلاق اختها ، كنت أسمع عويلا وصرخات استغاثة ..

يا الهي ما الذي يحدث ؟ هل هو حلم مزعج؟
انتصب المخيم أمام ناظري كانه جريح يكاد يهوي ، وظهرت صورة تلم المرأة التي احتسينا عندها أكواب الشاي مع الجوز والزبيب في ذكرى" يوم الارض" . تمرآى وجه رفيقي يتأمل وجهي بدهشة ، وجهٌ مطرّز بخيوط حمراء ولمعان دموع جافة . شاهدت جنازير الدبابات معجونة بلحوم آدمية وآثار دماء متخثرة .
وعلى الجانب الاخر، أمام بقالة أبو محمود كان الصبية يبكون جدهم المسّجى نحو ملكوت السماء، كان بلا راس ولا يدين.
وما كاد الفجر يبزغ حتى هرعت من نومي مذعورًا الى النافذة .. كان المشهد على طبيعته ، دخان وقذائف ..عويل ورائحة دماء طازجة.
أفقت مذعورًا.. حملت كوفية رفيقي .. ومشيت توًا نحو المخيم . كان الليل قد انتهى وحلي قد تحول الى مشهد ٍحقيقي .
كان بيت رفيقي قد تحول الى أنقاض ، بحثت بين أكوام الجثث المتناثرة وصور الشهداء وكتب الثورة عن جسده الفتي .. الذي ندره للحرية . كان وجهه مبتسما كانه عائد ٌ من رحلة صيفية .
نظرت الى تلك الملامح البريئة ، أبصرت فيها كل معالم الرحلة الشاقة . شاهدت كل شوارع القدس العتيقة محفورة في جسده بالخناجر والبلطات . كانت جمجمته تشبه قبة الصخرة لامعة وجميلة بجمال الشهادة .. في عينيه وقف يحي المقاتل يودعني من الزورق على بعد أميال داخل البحر . وعلى شفتيه كان يقول يحي "سنعود" ابتسامته ابت ان تفارقه حتى في عالمه الاخر ، كأنها الامل الذي يتسلح به كل أقرانه.
رائحة الموت كانت تعبق في كل مكان ، ورفيقي يحدق بعيني يحي وجدتي الشهيدة . وضعت الكوفية على وجهه ورحلت الى دموعي وحسرتي.. الى ذكرى ضحايا كل المجازر في شريط طويل من الوجع.