30‏/9‏/2009

سياسيّو لبنان: من يعيد العقل إلى حقله؟

معمر عطوي
يفرض عليك الواقع السياسي الراهن، الدخول في انتقائية سيئة بين اصطفافاته القائمة على اعتبارات يمتزج فيها العامل الطائفي والعائلي بالمصلحي والطبقي. اصطفافات ينتج منها خطان متوازيان في تخلّفهما وسوء إدارتهما للأمور، وإن كان المرء يجنح إلى أحدهما، أحياناً، من منطلق تقدير الفداء بالدم لا أكثر.
على مستوى لبنان، يمثّل هذين الخطين تياران يتصارعان أحياناً لدرجة محاولة الإلغاء، بذريعة التخوين أو التكفير أو الاتهام بجر البلد نحو الفتنة. ويتسلّح كل من التيارين بتسمية تلاصقه مهما جرى من تحولات أو تغيرات. فحركة «8 آذار» تصر على تسمية «المعارضة»، للتعريف عنها كمجموعة تضم أحزاباً وتيارات وشراذم وشللاً، رغم أنها جزء من الحكومة. بل تطالب دائماً بأن تكون في «حكومة وحدة وطنية» ولو بالقوة، وتحتفظ في الوقت نفسه بعنوان «المعارضة». وتفرض ما تفرضه من شروط على الطرف الآخر تحت شعار كاذب «الحفاظ على التعايش». شعار وهمي بدرجة الوهمية التي يتمتع بها شعار «لبنان أولاً».
والمفارقة أن كل فريق يتسلّح باجتهاداته الخاصة عن «الديموقراطية التوافقية»، التي ما أنزل أي قانون وضعي أو دستور مدني بها من سلطان. بل ذهب البعض بطريقة مثيرة للسخرية إلى التمييز بين أكثر نيابية وأكثرية عددية. فحين تكون مصلحة أحد الأفرقاء «الطوائف» في «تيار 14 شباط»، في عدم تغلّب طائفة معينة عددياً على الأخرى، في الوظائف العامة والمناصب الكبرى العسكرية والمدنية، يصبح اعتماد التوافق مسلّمة لا بد منها. وحين يناقض هذا النوع من الديموقراطية البدعة، التي تشبه «مجالس القبائل» في بعض الدول العربية، أو «لويا جيرغا» في باكستان وأفغانستان، يصبح اللجوء إلى الشعب «الغوغاء» مظهراً من مظاهر التمدن، حتى لو كان السبيل إليهم، استغلالاً لضائقتهم الاقتصادية والمعيشية، أو عزفاً على أوتارهم المذهبية. وهنا يكمن عقم كلتا


❞ماذا فعل فريقا 8 و14 آذار غير ترسيخ فكرة «نقاء المذهب» وارتباط الخط السياسي بـ«المقدّس»؟❝الأكثريتين، سواء كانت برلمانية أو عددية. جماهير سرعان ما تنتفض لدى سماع خطبة رجل دين من هنا أو نكتة رجل سياسة من هنالك أو تحذير من إبادة مرتقبة ضد «الجماعة»، على طريقة فبركة الخوف. والحديث عن «8 آذار» يشبه الحديث عن «دول الممانعة»، التي أُطلقت بإزاء «دول الاعتدال». والممانعة هنا أثبتت عقمها، بدليل أن هذا التعبير لم يحقق لهذا المحور من مناعة ضد «الغزو الثقافي والفكري» أو حتى العسكري، سوى الارتداد على أهل البيت من المواطنين الذين صدّقوا كذبة التصدي، فزُجّوا في السجون أو أُرسلوا للمنافي والقبور، بذريعة منافية للأخلاق السياسية والطهرانية، التي يدّعونها في مواجهة خطر الصهيونية والرأسمالية والرجعية العربية. هو تمنّع على طريقة «الدلع أو الغنج»، أو الخوف من الشعب، الذي لا بد أن يكون له دور في ممارسة النقد والتغيير ولو بعد حين من القمع ومصادرة حرية الرأي وتعميم الجهل والتخلف والأمية، بذريعة التفرّغ لمقارعة من لم تتحرك أي من هذه الدول، لمقارعته حتى حين وصل إلى حدودها، أو لا يزال يجثم على بعض أرضها.
يمكن المراقب أن يبدأ في محاكمته لهاتين الظاهرتين، من الإنسان، كمرتكز لا بد منه ومعيار أساسي في برنامج هذا التيار أو ذاك، اللذين يزعمان معاً حملهما رسالة إنسانية رائدة، وخططاً مستقبلية واعدة ووعوداً حريرية مغرية. السؤال يبدأ من الشباب، الذي يعتبر المنطلق للتغيير. ماذا فعل فريق «8 آذار» أو «14 آذار» لشباب لبنان، غير ترسيخ فكرة «نقاء المذهب» وارتباط الخط السياسي بـ«المقدّس»، بصورة لا تبتعد أبداً عن فاشية بعض دول أوروبا في بداية القرن الماضي.
ماذا فعل القيّمون على الحياة السياسية في لبنان، غير ترسيخ فكرة الخضوع للبيك والأمير والشيخ والأفندي، وأخيراً السيّد. وهل هناك في لبنان فريق يتمتع بحس تمدني آكثر من الآخر، أو ذهنية نقدية تعيد للعقل تألقه. أم أن الكل لديه القابلية لخرق القانون باسم حماية الطائفة، بل حتى بعدم الرضوخ للقانون بدءاً من خرق قانون إشارات السير ورمي النفايات من نوافذ السيارات.
هنا، لا يمكن القول إن أبناء الضاحية هم أكثر بعداً عن القانون من أبناء عكار أو بعلبك أو صيدا أو الطريق الجديدة. كل من هؤلاء لديه القابلية لسرقة خطوط الكهرباء والاحتيال على الدولة بتقديم دفاتر محاسبة وهمية في شركاته، وممارسة الإزعاج العام بمهنية عالية. كل يسرق الدولة بطريقته. وكل يتجاوز معايير السلامة العامة وقواعد سلوك المواطن الصالح، أو عدم حفظ المال العام وحقوق الآخرين، وفقاً لأسلوبه الخاص في ممارسة ذلك.
من هنا يصبح مظهر شباب لبنان هو ذلك الشباب الذي يفرغ سموم نراجيله المنتشرة في تجمعاته المناطقية أو الطائفيلة، كوسيلة وحيدة للتسلية. شباب يتعمد «لغم» عوادم سياراته لتلوّث بقدر ما تستطيع بيئة لبنان الجميلة (سابقاًُ).
هذه هي التيارات السياسية، التي لم يُسجّّل في وسائل إعلامها، وخصوصاً البصرية، سوى تعميم ثقافة التسطيح والتسخيف عن طريق تعميم ثقافة الاستهلاك، وترويج مسلسلات «رخيصة» وبرامج فضائحية، تشبه الصحافة الصفراء. والأنكى من ذلك، أنه لم يسجل لدى أي من هؤلاء برنامج أطفال أو أغان خاصة بهذه المرحلة العمرية الجميلة، ترتقي إلى مستوى تربوي يماثل ما يطلقونه من شعارات ويدّعونه من «طهرانية» أخلاقية في ممارستهم للسياسة.
الأطفال والشباب في لبنان هم من يدفع فاتورة التنافس السياسي، سواء عبر تعميم البطالة بينهم، عن طريق دفع رواتب شهرية لقاء جلوسهم في أحيائهم «لحمايتها» من الآخر القادم من الحي المجاور أحياناً. هم من يدفعون فاتورة وصول الزعماء إلى كراسيهم، ولو على دمائهم المُسالة في الطرق، ورئاتهم الملوثة بنيكوتين التنبك المعسّل وغيره من سموم أصبحت جزءاً من المشهد الاجتماعي العام.
هذا هو المشهد السائد في لبنان؛ تيارات سياسية تحمل مشاريع «تغييرية». لكن التغيير لا يتم إلا نحو التخلف والرجعية والتعصب والشوفينية والأمية. والأخطر من كل هذه الأنواع، تحدي البيئة بكل وسائل تلويثها. حتى وسائل التقنيات الحديثة باتت تستخدم لتخزين النكات الطائفية ورسائل الشحن المذهبي، أو السخرية من الآخر، الذي يُفترض أنّه (كما تقول أدبيات «القادة») شريك في الوطن.
لعل هذه الصورة السوداء، لهذا الوطن الوهمي، تؤكد عقم التهويمات بشأن «التغيير نحو الأفضل»، في ظل ترسيخ ذهنية الغلبة الطائفية، وتسويغ الاستغلال باسم الحفاظ على المقدّس. وغسل الأدمغة لتنسى تاريخ هؤلاء الحاكمين بأمرهم، بل تصوير كل شخصية «فذة» منهم على هيئة «يسوع المخلّص».
في خضم هذه الاصطفافات، من هو القادر على مخاطبة العقل؟ من هو الذي يستطيع أن يعيد العقل إلى حقله الطبيعي بدلاً من الاستمرار في مصادرته؟
«الأخبار»: عدد الاربعاء ٣٠ أيلول ٢٠٠٩

29‏/9‏/2009

انتكاسة للمسيحيين والاشتراكيين: الألمان يتمرّدون على الثنائية

معمر عطوي
لم تكن النتيجة النهائية للانتخابات الاتحادية الألمانية سوى جائزة ترضية للاتحاد المسيحي الديموقراطي (CDU)، بزعامة المستشارة أنجيلا ميركل. جائزة أتت عن طريق الحزب الديموقراطي الحر (FDP)، الذي حقق أفضل نتيجة في تاريخه السياسي (14.6 في المئة)، فيما سجل الـ«CDU»، أسوأ نتيجة منذ عام 1949 (33.8 في المئة).
نتيجة بدا من خلالها أن أحزاب الصف الثاني بعد الـ«CDU» والحزب الاشتراكي الديموقراطي «SPD»، الذي مني بأسوأ نتيجة منذ 1953 (23 في المئة)، قد حققت تقدّماً نوعياً. لعلّها تسجّل رغبة الألمان الواضحة في التمرّد على هذه الثنائية الحزبية، التي لم يكن أيّ من طرفيها، خلال السنوات الأخيرة، بمستوى طموحات شعب يعيش في إحدى أهم الدول الصناعية في العالم.
ولولا تحالف الاتحاد المسيحي، بشقّيه الاتحادي والبافاري «CDU»، مع «FDP»، لما استطاع تأليف حكومة من دون الائتلاف مع الاشتراكيين، على غرار ما حصل في عام 2005، بسبب عدم نيله النسبة المطلوبة (50 في المئة) لتأليف الحكومة.
وبهذه النتيجة، تعود الحكومة الألمانية إلى زمن المستشار هلموت كول، الذي حكم البلاد بالتحالف مع الليبراليين طيلة الفترة الممتدة ما بين 1982 إلى 1998، فيما كانت حقيبة الخارجية دائماً بيد الليبراليين.
أمّا المواطن الألماني الذي عاقب الحزبين، الاشتراكي والمسيحي على السواء، فقد كان جلّ تركيزه على الشأن الاقتصادي، في ظل أزمة شملت العديد من قطاعات هذه الدولة الصناعية. لذلك انقسم ما بين مؤيّد للسياسة الليبرالية والحدّ من سلطة الدولة في القطاعات الاقتصادية، وما بين توجهات حزب اليسار، التي جذبت جمهوراً كبيراً من مؤيّدي الحزب الاشتراكي.
من المؤكد أن السياسة الداخلية هي قطب الرحى لدى الناخب الألماني، لا الموقف من الشرق الأوسط أو العلاقة مع الحلف الأطلسي. هذا ما عبّرت عنه المواطنة اللبنانية الألمانية نيرفانا غندور، التي ترى أن الألمان اقترعوا لسياسة التخفيف من حجم البطالة. وفي رأي سيكفريد ألكسندر، فإن ألمانيا ستواجه وضعاً اقتصادياً ومالياً صعباً.
من جهته، القائم بالأعمال الألماني في بيروت، ميخائيل أونماخت، يرى أن السياسة الخارجية لن تتغيّر، فيما اللبناني الألماني الدكتور عصام الجوهري يرى أن «بقاء ميركل على المسرح السياسي هو نتيجة منطقية لسياسة الحكومة الائتلافية التي تصدّت للأزمة الاقتصادية وقلّصت حجم البطالة». لكنّ الجوهري، الذي شارك في الانتخابات، كان يتمنّى فوز الاشتراكيين «الأقرب إلينا».
كذلك، راهنت المواطنة الألمانية كريس لانغه على تقدّم اليسار، الذي لم يخيّب أملها، لكنه لن يستطيع القيام بشيء في ظل تحالف «يجسّد سياسة النيو ـــــ ليبرالية، ويؤثر سلباً على الوضعين الاجتماعي والاقتصادي للألمان».



الأخبار:٢٩ أيلول ٢٠٠٩

26‏/9‏/2009

أنجيلا ميركل VS فرانك فالتر شتاينماير

منافسة حامية بين «فتاة كول» وابن النجّار على منصب «المستشار»


في مكتب في الطابق السابع من مقرّ المستشارية، لوحة للأميرة الألمانية «كاثرين العظمى»، التي أصبحت إمبراطورة روسيا. تلك هي غرفة أنجيلا ميركل التي تناضل لمنع الاشتراكي فرانك فالتر شتاينماير من احتلالها

معمر عطوي
اعتاد الإعلام مخاطبتها بـ«أقوى امرأة في العام»، بعدما أطلقت عليها مجلة «فوربس» هذا اللقب لثلاث سنوات متتالية، تلك هي أنجيلا دوروثيا ميركل (1954)، ابنة القس البروتستانتي، التي عاشت في كنف الشيوعية، لتصبح بعد ذلك أول بروتستانتية تتزعم حزباً كاثوليكياً متشدّداً هو الحزب المسيحي الديموقراطي (CDU). لقد نشطت ميركل كعضوة في منظمة الشبيبة التابعة لجمهوريّة ألمانيا الديموقراطية (الشرقية). لكنها بعد سقوط جدار برلين، أصبحت «فتاة كول» المفضّلة، حيث لازمت المستشار السابق هيلموت كول (CDU).
ورغم أن الألمان يحبون فيها تلك البساطة المعهودة والعفوية في التعاطي مع الآخرين، فإنهم مؤمنون بأن براغماتيتها الزائدة، تخفي قناعاتها الحقيقية. وقد واجهت منذ وصولها إلى منصب المستشارة عام 2005، انتقادات بسبب عدم اهتمامها بأناقتها.
درست ميركل، التي ربحت معركة المستشارة ضد منافسها الحالي، نائبها ووزير خارجيتها، فرانك فالتر شتاينماير، الفيزياء، في جامعة لايبزغ (جامعة كارل ماركس سابقاً) ونالت الدكتوراه في هذا الاختصاص.
عملت ميركل، التي تزوجت مرتين، وولدت طفلة واحدة، نادلة في حانة أثناء دراستها. وفي المرحلة التي سبقت سقوط الجدار بين الألمانيّتين، بدأت ميركل تنشط سياسياً باتّجاه التغيير، لتتحوّل إلى عنصر فاعل يدعو إلى الحرية السياسية لمواطنيها الشرقيين.
لهذا، انضمت إلى حزب «نهضة الديموقراطية» عام 1989، ثم تسلّمت بعدما أجريت أول انتخابات حرة في الشطر الشرقي، منصب المتحدثة باسم الحكومة المنتخبة، التي كانت برئاسة لوثار دي مايزيير. حكومة سبقت إعلان الوحدة الألمانية بأشهر، وشهدت سقوط الجدار.
لكنها بعد الوحدة عام 1990، انضمت إلى الاتحاد الديموقراطي المسيحي. بموجب الانتخابات الأولى التي أُجريت على مستوى ألمانيا الاتحادية «الموحّدة»، تولّت ميركل حقيبتين وزاريتين في عهد كول (1990- 1998).
استقال كول بعد هزيمته في انتخابات عام 1998 أمام زعيم الحزب الاشتراكي الديموقراطي غيرهارد شرودر، وصعدت ميركل لتصبح أمينة عامة لـ «CDU». ثم انتُخبت في سابقة تاريخية عام 2000 رئيسة للحزب، وكانت أول امرأة وأول بروتستانتية تتولى هذا المنصب في حزب له جذور مسيحية محافظة.
منذ وصلت ميركل، في 22 تشرين الثاني 2005، كأول امرأة وأول مواطن من ألمانيا الشرقية يتولى هذا المنصب، كان في طليعة اهتماماتها الخارجية، تعزيز محور برلين ـــــ باريس. كما عملت جاهدة لإعادة العلاقات الطبيعية مع واشنطن بعدما توتّرت في عهد شرودر بسبب غزو العراق. وأسهمت في تعزيز سياسة التدخل العسكري في أفغانستان، فيما رفضت انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، الذي شهد اعتماد معاهدة لشبونة، البديلة لمشروع دستوره عام 2007، فترة رئاسة ألمانيا للاتحاد.
كما سعت ميركل، التي تتحدث الروسية والإنكليزية إضافة إلى لغتها الأم، إلى ترسيخ فكرة الالتزام الألماني بأمن إسرائيل وتبني «المسؤولية الأخلاقية» تجاه اليهود في العالم. الأمر الذي دفع الجالية اليهودية في ألمانيا إلى منحها عام 2007 جائزة «ليو بيك»، التي تمنحها الجالية سنوياً. كما منحتها الجامعة العبرية في القدس المحتلة الدكتوراه الفخرية في الفلسفة.
في أي حال، ورغم نتائج الاستطلاعات التي تشير إلى تقدّمها على منافسها شتاينماير، يبقى وضع ميركل الانتخابي، غامضاً بانتظار ما ستؤول إليه أصوات الضبابيّين من المقترعين، الذين يراهنون على تحسّن مفقود في خطابها السياسي، ولا سيّما أن المناظر التلفزيونية مع شتاينماير أفقدتها بعض رصيدها الشعبي.
في المقابل، بدأ شتاينماير (1956) نشاطه السياسي منذ شبابه، حين كان عضواً في شبيبة الحزب الاشتراكي. ثم اقتفى أثر المستشار شرودر، الذي عيّنه رئيساً لمكتبه ومن ثم مستشاراً له أثناء توليه الحكم (1999- 2005).
ابن مدينة «دتمولد» في ولاية شمال الراين ـــــ فستفاليا (غرب ألمانيا)، أدى شتاينماير الخدمة العسكرية الإلزامية قبل أن يتابع دراسته في القانون والسياسة ليحصل على الدكتوراه.
وشارك شتاينماير، الذي شغل منصب رئيس مجلس شورى الاتحاد الأوروبي للنصف الأول من عام 2007، في إعداد الإصلاحات الاقتصادية في عهد شرودر. لكنه لم يستطع أن يملأ موقع الأخير لذلك خرج من تحت عباءته ليتبنّى نهجاً يمينياً وسط الاشتراكيين. راهن ابن النجار في المؤتمر العام لحزبه في برلين في حزيران الماضي، على الفوز قائلاً «إننا نريد الفوز وسنحقّقه». ودخل حلبة السباق إلى أهم منصب إجرائي في البلاد، الذي يملك صلاحيات كبيرة، على عكس رئيس الجمهورية، معتبراً أنه «سيصبح مستشاراً لكل الألمان». بيد أن صاحب الابتسامة العريضة يجهد بقوة لتحقيق تقدّم على «فتاة كول»، فيما يقف الألمان متأهّبين لحسم المعركة غداً، لعلّهم ينجحون في إيصال أحد الحزبين إلى الحكومة من دون الاضطرار إلى عقد ائتلاف صعب.



الأخبار: ٢٦ أيلول ٢٠٠٩

25‏/9‏/2009

عبء التاريخ لا يزال يثقل ألمانيا

«عقدة الذنب» تجاه إسرائيل تتحكّم في البرامج الانتخابية

لا تختلف الأحزاب الألمانية في رؤيتها لمسألة الحفاظ على أمن إسرائيل، وطناً قومياً لليهود، ذلك أن عقدة الذنب تجاه هؤلاء، والمتولّدة من ممارسات النازية التي حكمت البلاد بين عامَي 1933 و1945، لا تزال تتحكّم في طريقة التعاطي السياسي في مراكز القرار. وإذا كان البعض يتعاطى مع هذه القضية من منطلق الخضوع لوسائل الضغط اليهودية الموجودة على أرض «الرايخ الثالث»، إلّا أن بعض الأحزاب، أو الأجنحة اليسارية فيها، باتت تؤمن أن المسؤولية الأخلاقية تجاه «مظلومية اليهود» هي محض وهم، وأن الإسرائيلي الذي يبتزّ الحكومة الألمانية ومثلها الحكومات الغربية، ما هو سوى نازيّ جديد يشرّد الفلسطينيين بأموال دافعي الضرائب الألمان

معمر عطوي
على أعتاب استحقاق الانتخابات التشريعيّة في ألمانيا، التي تُجرى بعد غد الأحد، تتنافس الأحزاب على العديد من القضايا. لكن رغم أن حجر الرحى بالنسبة إلى الناخب الألماني هو القضايا الداخلية، يمثّل الشرق الأوسط، مادة حيّة في البرامج الانتخابية التي تدعو معظمها إلى استضافة «مؤتمر للسلام» بين الفلسطينيين والإسرائيليين على الأراضي الألمانية.
إلى جانب الحزبين الحاكمين، الحزب الاشتراكي الديموقراطي «SPD» والاتحاد المسيحي الديموقراطي المحافظ «CDU» برئاسة أنجيلا ميركل، هناك ثلاثة أحزاب فاعلة على الخريطة السياسية، وهي الحزب الديموقراطي الحر (الليبرالي) «FDP» والحزب اليساري وحزب الخضر.
يمكن القول إن الحزب المحافظ هو الأكثر تطرفاً في علاقته بإسرائيل، وممالئته للولايات المتحدة في مشاريعها العسكرتارية. علاقة بدأت منذ تسلّم «الاتحاد المسيحي» السلطة بعد وضع الحرب العالمية الثانية أوزارها، وتوّجت بلقاء «تاريخي» هو الأول من نوعه بين أول مستشار لألمانيا، كونراد أديناور (محافظ)، وأول رئيس وزراء لإسرائيل دايفد بن غوريون، عام 1952.
أمّا الحزب الاشتراكي، فرغم ميوله اليسارية وتعاطفه مع الفلسطينيين، ودعمه لمشاريع التسوية في المنطقة، لم يستطع الخروج من العقدة التاريخية. لذلك كان من الداعمين والمباركين لنشوء إسرائيل عام 1948، ثم سار في سياسة دعم هذا الكيان والدفاع عن «حقه في الوجود» ويهوديته. غير أنه في الوقت نفسه، دعم «حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، وإنشاء دولة فلسطينية قادرة على الحياة».
رغم ذلك، تميّزت الحكومات الاشتراكية، بعلاقة جيدة مع الفلسطينيين والعرب، وأسهمت في تقديم الدعم إليهم والتعاطف مع قضاياهم. وبرز في هذا الحزب جناح يساري مثّله في الفترة الأخيرة المستشار السابق غيرهارد شرودر، الذي كان يطلق عليه الألمان لقب «غيرهارد العرب» لتعاطفه مع الشعوب العربية ومساندته لقضاياهم ورفضه المشاركة في غزو العراق عام 2003. لكن شرودر عاد وخضع للضغوط اليهودية، ووافق على بيع غوّاصتين نوويتين من طراز «دولفين» المتطورة، لإسرائيل، وبتسهيلات مالية كبيرة. وكان الحزب الاشتراكي من المؤيدين لاستخدام الشعب الفلسطيني السلاح من أجل تحرير أرضه «حسب تعريف القانون الدولي»، غير أنه في عهد نائب المستشار، المرشّح الثاني لمنصب المستشار في الانتخابات المقبلة، فرانك فالتر شتاينماير، أصبح الحزب أقرب في توجهاته إلى المحافظين.
في المقابل، يقف الحزب اليساري بقيادة أوسكار لافونتين، الذي ارتدّ عن الـ «SPD» ليؤسس مع رئيس الحزب الشيوعي السابق غريغور غيزي الحزب اليساري الجديد عام 2007، على ضفة أخرى.
لقد ورث الحزب اليساري، الاشتراكيين في بعض طروحاتهم. بل ذهب أبعد منهم في تأييده للقضية الفلسطينية، ورفضه كل مشاريع العسكرة الأميركية. وأخذ اليساريون على الحكومة الألمانية، تبعيتها للولايات المتحدة، على قاعدة أنها لا تمارس الضغط اللازم على إسرائيل لوقفها عن تعنّتها في رفض مؤتمر للسلام، وفي دعمها بناء المستوطنات والجدار العازل وإقفال المعابر وحصار غزة. ويتضمّن برنامجه مطالبة إسرائيل بالاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة.
في السياق نفسه، يؤمن الحزب الليبرالي «FDP» بدعم «حق إسرائيل في الوجود، وحق الفلسطينيين في الحياة الحرة الكريمة ضمن دولة مستقلة قابلة للحياة». كما وقف الحزب ضد حرب الولايات المتحدة على العراق.
وتميّز الحزب الليبرالي بشخصيات عُرفت بعلاقتها الطيّبة مع العرب، ودعمها للقضية الفلسطينية، مثل العضو البرلماني الاتحادي، القيادي الراحل يورغن موليمان، الذي كان يرأس جمعية الصداقة العربية ـــــ الألمانية.
وتعرّض موليمان لهجوم عنيف من جانب إسرائيل والمجلس المركزي لليهود في ألمانيا، بسبب ما قيل عن تورّطه في صفقات أسلحة مع العالم العربي. ثم لدعمه منظمة التحرير الفلسطينية، وقيامه بزيارة الرئيس الراحل ياسر عرفات في مقرّه في رام الله، وتفهّمه للعمل الفدائي، إلى أن اتُّهم بالعداء للسامية وبتلقّي تبرعات من دول عربية. كان يرد على هذا الاتهام بالقول إن «العرب أيضاً ساميّون فكيف أكون معادياً للسامية؟». وقد قُتل موليمان عام 2003 بحادث سقوط أثناء ممارسته للقفز بالمظلة، حيث كانت هوايته المفضلة.
يبقى على الخريطة حزب الخضر، الذي تأسس على أيدي بعض اليساريين السابقين والمدافعين عن البيئة. هذا الحزب تميّز بمواقفه الرافضة للحروب، والداعمة للديموقراطية وحقوق الإنسان. عرف الخضر قادة يساريين أمثال وزير الخارجية السابق يوشكا فيشر. لكن هؤلاء القادة، الذين كانوا مؤيدين لحركات التحرر، شهدوا تحوّلات جذرية في مواقفهم تجاه القضية الفلسطينية؛ ففيشر، الذي كان من المتحمسين في شبابه للثورة الفلسطينية، أصبح خلال توليه منصب وزير الخارجية يرى أن «إقامة علاقات جيدة مع إسرائيل ستظل من أولويات الدبلوماسية الألمانية في المستقبل».
في أي حال، تُجمع الأحزاب الألمانية، رغم تفاوت نظرتها للقضية الفلسطينية، على ضرورة التخلص من عبء التاريخ، وتحمّل وزر الأجداد. وهذا ما لا يمكن القيام به في ظل موقف ألمانيا المتماهي مع موقف الاتحاد الأوروبي، وبالتالي الولايات المتحدة، طالما أن إسرائيل بنظرهم هي ذلك الطفل المُدلّل.

15‏/9‏/2009

أكراد إيران ونضال الهويّة



نزاع بدأ قوميّاً وانتهى مذهبياً


سلّطت عملية اغتيال أحد رجال الدين الأكراد في إيران السبت الماضي (12 أيلول)، الضوء على القضية الكردية في الجمهورية الإسلامية، حيث تخوض هذه القومية، كما في تركيا وسوريا والعراق (سابقاً)، نضالاً من أجل إثبات الهوية. المفارقة أن إمام الجمعة في أحد مساجد مدينة سنندج، التابعة لمحافظة كردستان الإيرانية، ماموستا برهان عالي، كان مؤيداً للسلطة، بل هو أحد مسؤولي الحملة الانتخابية للرئيس محمود أحمدي نجاد في المحافظة الواقعة غرب البلاد. لكن ولاء الشيخ عالي لنجاد لا ينفي مشكلة قائمة منذ قرون بين الكرد والفرس، وصلت إلى أوجها مع تحول النزاع إلى سُنّي شيعي، في ظل النظام الإسلامي


معمر عطوي



تمثّل القضية الكردية في الجمهورية الإسلامية، امتداداً واضحاً لما تشهده في المنطقة الواقعة بين العراق وتركيا وسوريا وإيران. لكنها في هذه الأخيرة تأخذ منحىً ثانياً، إذ بدأ النزاع قومياً (كرد وفرس) لينتهي مذهبياً (سُنة وشيعة). ووفق إحصائيات عام 2006، فإن الأكراد يمثّّلون نحو 7 في المئة من سكان إيران البالغ عددهم نحو 70 مليون نسمة. ويعيش أكثر من ستة ملايين كردي في شمال غرب البلاد، وهم موزّعون على محافظات آذربيجان الغربية وكردستان وكرمانشاه وإيلام وهمدان ولورستان وخراسان الشمالية.في أي حال، لا يمكن الاستناد إلى الإحصائيات الرسمية، حيث تعد أعداد الأقليات سلاحاً سياسياً للسلطات والأقليات على حد سواء. سلاح تستخدمه هذه الأقليات بمضاعفة العدد من أجل تبرير المطالبة بالانفصال والاستقلال، بينما تستخدمه السلطة للتقليل من شأن هذه المجموعة البشرية، وشرعنة مصادرة حقوقها.ويبرر أكراد إيران نشاطاتهم العسكرية واحتجاجاتهم ضد السلطة، بتعرضهم «لاضطهاد منظم» من السلطات الحاكمة؛ ففي إيران، كما في تركيا، يُحظر عليهم تعلم اللغة الكردية في المدارس الرسمية، ولا يمكنهم نشر الأدب الكردي إلاّ بإشراف جهاز الاستخبارات. وذلك برغم أن البند الـ15 من الفصل الثاني من الدستور الإيراني ينص على حق الأقليات في استعمال لغاتها في المجالات التعليمية والثقافية.كذلك، هناك المادة 19 من الفصل الثالث، التي تنص على عدم التمييز بين الإيرانيين على أساس عرقي، فيما يعاني الأكراد من التمييز ضدهم في فرص العمل والقبول في الجامعات والمناصب العليا في مناطقهم.وفي محاولة تاريخية فاشلة لتحقيق وطنهم المستقل عام 1946، استغل بعض الأكراد اجتياح الاتحاد السوفياتي للأراضي الايرانية، وهروب الشاه رضا بهلوي، بسبب تعاطفه مع ألمانيا النازية، فقام أحد زعمائهم، ويدعى قاضي محمد، بإعلان «جمهورية مهيباد» الكردية.لكن الشاه، الذي خلفه ابنه محمد رضا في الحكم آنذاك، طلب من حليفته الولايات المتحدة الضغط على موسكو، ما أدى إلى انسحاب القوات السوفياتية من الأراضي الايرانية. انسحاب لم يكن في مصلحة الأكراد، الذين يدفعون دائماً فواتير النزاعات السياسية بين الدول، حيث قامت الحكومة الايرانية بإسقاط «جمهورية مهيباد» بعد 11 شهراً من إعلانها وأعدم قاضي محمد في 30 آذار 1947.في ذلك الوقت، برز الحزب الديموقراطي الكردستاني، بقيادة عبد الرحمن قاسملو، ليخوض في ستينيات القرن الماضي حرب عصابات ضد نظام الشاه في جبال كردستان الوعرة. لكن الجيش الشاهنشاهي تمكن من قتل بعض قياداتهم وتقليص نشاطاتهم.أمّا في عام 1978، فقد شاركت مجموعات كردية، في أعمال الثورة الاسلامية، بيد أن المرحلة التي تلت انتصار الثورة ودخول تشكيل الدولة، خلقت مشكلة بين الأكراد والسلطة الاسلامية، التي جعلت الفقه الشيعي مصدراً للتشريع في البلاد. مشكلة تجلّت صورتها حين رفضت السلطة الإسلامية السماح لممثلين عن الأكراد بالمشاركة في كتابة الدستور الإيراني الجديد.وتطورت فصول النزاع في ظل نظام الخميني، إذ اندلعت بين عامي 1979-1982 اشتباكات مسلحة بين القوات الحكومية والأكراد ممثلين بالحزب الديموقراطي الكردستاني الإيراني والحزب اليساري الكردي «كومه له».وفي العام 1983، تمكنت الحكومة من بسط سيطرتها على معاقل الحزبين. وقامت قوات الحرس الثوري الإيراني «الباسدران»، باعتقال وإعدام الكثيرين من الأكراد في إيران. وتقول المصادر الكردية إن هذا النزاع أدى الى تدمير ما يقارب 271 قرية كردية، فيما اتخذ الحزبان من العراق مقراً لهما بدعم من حكم الرئيس الراحل صدام حسين.وبعدما وضعت الحرب العراقية ــــ الإيرانية أوزارها عام 1988، تفاوض الحزب الديموقراطي الكردستاني مع حكومة طهران، لكن اغتيال قائد الحزب الدكتور قاسملو، عام 1989، قتل المفاوضات في مهدها.مع ذلك، شهد عهد الرئيس الأسبق هاشمي رفسنجاني بعض الانفتاح تجاه الأكراد. وتطورت هذه السياسة في عهد الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي، حين منحت بعض الحقوق الإدارية لكردستان، وحصل اهتمام بالثقافة واللغة الكردية. وذهبت الحكومة أبعد من ذلك بتعيين أول محافظ كردي لمحافظة كردستان. وأنشئ حزب الإصلاح الكردي ومنظمة الدفاع عن حقوق الأكراد. لكن في المقابل، شهدت الأشهر الأخيرة من حكم خاتمي استقالة ستة نواب أكراد من البرلمان، بدعوى عدم اهتمام الحكومة بالمطالب القانونية والحقوق المتكافئة للأكراد.كذلك تأسس عام 2004، حزب الحياة الحرة «بيجاك»، الفرع الإيراني لحزب العمال الكردستاني التركي. وأنشأ مواقع حصينة في جبال القنديل النائية شمال شرق العراق، وكانت أولى عملياته اختطاف 4 من عناصر الشرطة الإيرانية في آب عام 2005.في عهد الرئيس الحالي محمود أحمدي نجاد، تعززت المواجهات الدامية بين القوات الحكومية والفصائل الكردية. وخصوصاً أن الرئيس المحافظ متهم بالضلوع في تصفية قاسملو.ويبدو أن التغيير الذي حصل في العراق بعد احتلاله عام 2003، وما تبعه من وضع مميز حظي به أكراد العراق في إقليم كردستان، شجّع أكراد إيران على زيادة نشاطهم للمطالبة بحقوقهم. وكان نتيجة هذه التحولات ظهور «الجبهة الكردية الموحدة»، التي هدفت لتحصيل حقوق الأكراد والدفاع عن قضاياهم بالوسائل السياسية والسلمية.
جذور تاريخيّة للصراع
تشير مخطوطة قديمة من كتاب «أعمال أردشير بن باباك» الفارسية، الى أن صراعاً نشأ بين مؤسس الدولة الساسانية (الفارسية قديماً) أردشير الأول، وملك كردي كان يدعى ماديغ، وذلك كان قبل القرن الرابع عشر. في ذلك القرن، وصلت إمارة أردلان (الكردية)، إلى أوج قوتها، إلى أن أنهى الملك القاجاري (الفارسي) ناصر الدين شاه، نفوذ الأردلانيين عام 1867. وفي عهد الصفويين، تعرض الأكراد لمحاولات إخضاع. وأدّت هذه المحاولات إلى صراعات دموية انتهت بهزيمة الأكراد أثناء حكم طهمسب الأول (1514-1576)، الذي دمّر معظم القرى الكردية وتهجير ساكنيها إلى منطقة جبال البرز وخراسان.رغم هذا التباين بين القوميتين، يؤكد المؤرخون أن اللغة الكردية تنتمي إلى فرع اللغات الفارسية، التي تنتمي بدورها إلى مجموعة اللغات الهندو-أوروبية.ويتشارك الأكراد والفرس في مناسبات اجتماعية، وباعتماد تقويم السنة الايرانية، حيث يحتفلون كل عام بعيد «النوروز» الموافق لـ21 آذار.
عدد الثلاثاء ١٥ أيلول ٢٠٠٩

2‏/9‏/2009

شبح ماركس يخيّم على قلب أوروبا

اليسار الألماني يُعيد خلط الأوراق قبل الانتخابات العامّة
رغم عدم مرور عامين على ولادته، اقتحم حزب اليسار الألماني الحياة السياسية بقوة، محققاً نتائج غير مسبوقة على مستوى الانتخابات المحلية. لعل آخرها في ولايات سكسونيا وتورنغن وسارلاند. المفارقة أن هذا التقدم اليساري أتى على حساب الحزب الاشتراكي الديموقراطي (يسار الوسط) في الولاية الاولى، فيما تراجع الاتحاد المسيحي في تورنغن وسارلاند، حيث كان يحكم منفرداً كلاً من الولايتين منذ سنوات طويلة. وقبل نحو أربعة أسابيع من الانتخابات الاتحادية، التي ستفرز الحزب الأكثر شعبية لتسلّم السلطة، يجرى الحديث عن إمكان تحالف الحزب الاشتراكي مع اليسار في ما يسمى «تحالف الحمر مع الحمر»، رغم معارضة بعض الاشتراكيين لهذا التحالف
معمر عطوي
من خلال نتائج انتخابات ولايات سكسونيا وتورنغن وسارلاند (30 آب)، يمكن القول إن الحزب اليساري الألماني نجح في اقتحام الحياة السياسية، واحتل مكاناً لائقاً في المشهد العام، قد يؤهله في ما بعد لتأليف حكومة ائتلافية مع أحد الحزبين الرئيسيين في البلاد: الحزب الاشتراكي الديموقراطي «SPD»، الذي يعتبر الأقرب الى طروحات اليسار رغم اعتماده، منذ سقوط الرايخ الثالث (1945)، رؤية «واقعية» تولّف بين اقتصاد السوق ورقابة الدولة.وبدا الحزب اليساري، الذي يحظى وفق استطلاعات الرأي الخاصة بالانتخابات العامة التي تجرى في 27 أيلول الحالي بنسبة 9 في المئة، متقدماً في ولاية تورنغن حيث حقق 27.4 في المئة، في مقابل 24 في المئة في الانتخابات السابقة عام 2004. وفي ولاية سارلاند، قفز من 15 في المئة إلى 21.3 في المئة، بينما تراجع قليلاً في سكسونيا، فنال نسبة 20.6 في المئة مقابل 21 في المئة عام 2004. أمّا الاتحاد المسيحي الديموقراطي «CDU»، فقد بقي في هذه الولاية في الطليعة (40.2 في المئة) على عكس الولايتين الأخريين.لم يكن هذا النجاح لليسار جديداً على المراقبين، إذ استبشر القيادي في حزب اليسار، ديتمار بارتش، منذ أسابيع، خيراً من هذا الاستحقاق، حين ذكر لـ«صحيفة برلينر»، أن الحزب الاشتراكي لن يتجاوز حزب اليسار خلال الانتخابات المحلية في ولايات سكسونيا وتورنغن وسارلاند. وسبق ذلك نجاح الحزب في ولايات هيسن وسكسونيا السفلى وهامبورغ، العام الماضي، حيث تجاوز اليسار نسبة الحد الأدنى من الأصوات التي تمكّنه من الدخول إلى البرلمان.هذا الواقع أدى إلى إعادة التموضع على الخريطة الحزبية لألمانيا، ولا سيما أن الحزبين الكبيرين «CDU» و«SPD»، لم تعد لأيٍّ منهما الغالبية التي قد تخوّل أحدهما لأن يؤلف الحكومة منفرداً. كذلك فإن حظوظ إعادة تحالف ما يسمى «الأحمر والأسود» القائم حالياً بين الاشتراكيين والمحافظين، برئاسة المحافظة أنجيلا ميركل، تراجعت كثيراً في ظل التباين الذي ظهر خلال الحكومة الائتلافية منذ عام 2005، والذي سُمّي تحالف الضرورة.وفي ظل الخريطة الجديدة، بات أمام الحزب المسيحي خيار التحالف مع الحزب الديموقراطي الحر الليبرالي «FDP»، فيما تتوافر معطيات أفضل للحزب الاشتراكي الذي تربطه رؤى مشتركة مع حزبي الخضر واليسار.وبات من المؤكد أن تقدّم اليساريين لم يُعِد خلط الأوراق فقط، بل أسهم في تبديل اقتناعات داخل الاشتراكيين أنفسهم، لجهة «مشروعية» التحالف مع الحزب اليساري. فقد نشأ بعد انتخابات ولاية هيسن المحليّة العام الماضي، جدل حاد وسط الحزب الاشتراكي، الذي لم يحقق وحليفه التقليدي حزب الخضر، الغالبية المطلوبة لتأليف الحكومة في الولاية. يومها أعطى رئيس الحزب، كورت بيك، الضوء الأخضر لمرشحته في الولاية، أندريا يبسيلانتي، للتحالف مع اليسار، ما أدى إلى ظهور تيارين متعارضين وسط الاشتراكيين: الأول يمثله بيك ولا يرى ضيراً من التحالف مع اليسار، والآخر يمثله نائب رئيس الحزب، بيتر شتاينبروك، الذي حذر من فقدان الحزب لصدقيته، ووزير الخارجية فرانك فالتر شتاينماير، الذي وافق أخيراً على مضض على هذا التحالف، بشرط أن يكون فقط على مستوى ولاية هيسن ولا ينسحب على مستوى الانتخابات الاتحادية للعام الحالي.وسط هذه الأجواء، بدأ الحديث يدور في أوساط المحافظين عن احتمال فرط عقد الائتلاف الحاكم في ولاية هيسن، ولا سيما بعد ظهور إشارات من الحزب الاشتراكي بإمكان انتخاب مرشحته، بمساعدة أصوات نواب حزب اليسار، لرئاسة الحكومة المحليّة. لعل التيار اليساري وسط الاشتراكيين، لا يزال يحتفظ بعلاقة ود مع أحد قياديي حزب اليسار، أوسكار لافونتين، الذي خرج من رحم الحزب الاشتراكي، منشقاً، ليؤسس مع زعيم حزب الاشتراكية الديموقراطية الشيوعي السابق، غريغور غيزي، «اليسار الجديد». ففي الحزب الاشتراكي الذي لا يزال في بعض طروحاته يتجه نحو شرائح المجتمع والنقابات العمالية، ثمة من يرى صعوبة في إقصاء حزب اليسار. بل يحلم هذا التيار بتكوين ائتلاف واسع مع اليسار والخضر، في وجه المحافظين والليبراليين. مع الإشارة هنا الى أن حزب الخضر أيضاً خرج من رحم اليسار. كما هو حال الحزب الاشتراكي الذي بدأ في أوائل القرن العشرين، ماركسياً.وكان الرئيس الألماني الأسبق، المحافظ رومان هيرتزوغ، قد توقّع في أوائل العام الماضي أن يؤدي حزب اليسار دوراً حاسماً على المستوى الاتحادي خلال الانتخابات العامة. وحذر، في مقال كتبه بصحيفة «زود دويتشه»، من مخاطر ظهور حكومات أقلية، الأمر الذي يضطر المستشار لطرح «حلول وسط شديدة الحماقة»، تهدف لدفع برنامجه وإمراره، مشيراً إلى أن ذلك سيجعل المستشار في الساحة الخارجية بمثابة «بطة عرجاء».ربما استفاد اليسار من الانعطافة الشديدة التي شهدها «الاشتراكي» حين بدأ بعد الوحدة بتبني شعار «الوسطية الجديدة». شعار دفع شريحة واسعة من مؤيدي الطروحات اليسارية والماركسية، التي كانت تجد في الاشتراكيين أفضل الممكن لتمثيلها، إلى البحث عن خيار آخر جديد.في أي حال، يبدو أن شبح كارل ماركس، عاد ليحلّق في قلب أوروبا، وبالذات فوق موطنه الأصلي ألمانيا. ففي ظل الأزمة المالية العالمية الناتجة من السياسات الرأسمالية، ورغم تصاعد التيارات اليمينية والمحافظة، ثمة شريحة أدركت أهمية طروحات اليسار في تطبيق العدالة الاجتماعية، ولا سيما أن المحافظين، ومعهم الاشتراكيون قد ذهبوا أخيراً بعيداً في ممالأة الولايات المتحدة وسياساتها.

1‏/9‏/2009

نجاد يعاني حصاراً في الداخل... والخارج

الأخوَان لاريجاني عن يمينه ورفسنجاني عن يساره والمرشد يضبط الإيقاع

معمر عطوي


يبدو واضحا أن المواجهة الساخنة بين الأقطاب والمراجع المتصارعين على المسرح السياسي الإيراني، قد انتقلت من الشارع إلى أروقة القرار، ويخوضها المتنافسون على حلبة التعيينات الوزارية والإدارية
معمر عطوي
بات الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد قطب الرحى في الصراع السياسي الداخلي الإيراني. صراع درجت العادة على أن يكون بين إصلاحيّين ومحافظين، لكنه بات الآن بين المحافظين أنفسهم، ولا سيّما بعد تفرّد الرئيس بقراراته عن أصدقائه المحافظين، بدرجة لا تقل عنها مع الإصلاحيّين. رغم ذلك، بدا نجاد كأنه يبعث بإشارت إيجابية إلى الداخل والخارج، بشأن إمكان حدوث تغيير في سياسته. تغيير يستهدف من خلاله التأكيد أن المرشح الخاسر مير حسين موسوي، لا يتمتع بما يتمتع به الرئيس «المتشدّد» من انفتاح اقتصادي يعتمد الخصخصة، ويعطي الدور الرائد للنساء، في جمهورية الملالي.على صعيد الملف النووي، بعث نجاد بإشارات عن استعداد طهران للتفاوض مع الغرب، مفسحاً في المجال أمام المفتشين الدوليين، لتفتيش مفاعل نووي يعمل بالماء الثقيل في آراك، بعد سنة من المنع.ليس بعيداً عن هذه السياسة، تعيين علي أكبر صالحي، المفاوض الهادئ، رئيساً لهيئة الطاقة الذرية الإيرانية. لعل ما يقوم به نجاد يوحي بأنه يضع الملف النووي في قائمة أولويات حكومته الواعدة.وربما يبحث نجاد، المُحاصر باعتراضات الداخل وعقوبات الخارج، عن كوّة يفتحها في جدار سياسته الاقتصادية العقيمة، بالتساهل قليلاً في الملف النووي، في مقابل انتعاش اقتصادي يمتص غضب الإيرانيين، ولعل بشارته الأخيرة بإمكان التوصل إلى اكتفاء ذاتي بعد عامين على صعيد تأمين البنزين المكرّر تصب في هذا السياق.يأتي هذا الإلحاح على تحريك الملف النووي، قبل أيام من تقرير معتزم سيصدر عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية بشأن إيران، وعلى أعتاب المهلة الأخيرة المعطاة لطهران لتنفيذ مطالب المجتمع الدولي بوقف تخصيب اليورانيوم.أمّا صورة التنافس الدائر على حلبة التعيينات، فقد بدأت مع رفض المرشد الأعلى علي خامنئي تعيين قريب نجاد، أسفنديار رحيم مشائي، في منصب النائب الأول للرئيس، تماهياً مع موقف المحافظين، الذين انتقدوا تصريحات مشائي عن «الصداقة مع الشعب الإسرائيلي».لقد حاول نجاد في إطار الخلاف بين المحافظين، على خلفية تعيين مشائي، إيجاد مخرج لقريبه المثير للجدل، من خلال تعيينه مديراً لمكتبه. لكن هذه المحاولة لا يبدو أنها نجحت، بل نجح الطرف الآخر في ليّ ذراع نجاد، حين علّق ديوان المحاسبة، الأسبوع الماضي، مهمّات الأول، بتهمة استغلاله للسلطة.ومن الواضح أن المعركة الشهيرة بين الإصلاحيين والمحافظين، انتقلت الى داخل معسكر المتشددين أنفسهم. وبات خامنئي الذي يدعم نجاد بوضوح، أحد أهمّ ضابطي إيقاع هذه المعركة. بدا ذلك جليّاً من خلال التبدلات التي طرأت على سياسة رئيس مجلس الخبراء علي أكبر هاشمي رفسنجاني، الذي وقف في البداية مع الإصلاحيين وهاجم الحكومة وسياسة القمع المتّبعة. بيد أنه منذ خطبة الجمعة التي ألقاها في جامعة طهران الشهر الماضي، بحضور قادة إصلاحيين، اعتمد لغة جديدة، تؤكد تقاربه مع المرشد الأعلى، ما يثير تساؤلات عن صفقة قد تكون عقدت بين الطرفين.رفسنجاني المشهور بحنكته السياسية، ونفوذه الواسع، لعب ورقة المحافظين المعارضين لسياسة نجاد، من خلال التماهي مع دعوة حوالى ثلثي أعضاء مجلس الخبراء له الشهر الماضي، لإبداء مزيد من التأييد لخامنئي. وربما ركب الرئيس الأسبق موجة المحافظين المعارضين لنجاد، الذين طالبوا الأخير «بتقديم اعتذارات إلى الشعب»، لأنه تأخر في تنفيذ أوامر خامنئي، بغية مضاعفة الضغوط عليه.

ويأتي تعيين آية الله صادق لاريجاني، رئيساً للسلطة القضائية، ليزيد الخناق على نجاد. ومعروف أن صادق لاريجاني هو شقيق رئيس مجلس الشورى علي لاريجاني، الذي لا تربطه بنجاد مودة كبيرة منذ خلافهما على إدارة الملف النووي عام 2007. وبذلك باتت السلطة التنفيذية ممثلة بنجاد محاصرة بسلطتين (القضائية والتشريعية) يمثلهما الأخوَان لاريجاني، بما يشير إلى الحدّ من حركة الرئيس.قد يكون أحد تجليات هذه المحاصرة للرئيس العنيد، انتخاب وزير الأمن السابق، غلام حسين محسني اجائي، مدعياً عاماً لإيران، والذي أقاله نجاد أخيراً.لكن المعركة الأكثر ضراوةً، في هذا السياق، هي حول وزارة الطاقة، بما تمثّله من ثقل في دولة نفطية كبرى كإيران؛ فرغم نجاح نجاد في قص الأذرع العديدة لرفسنجاني داخل هذا القطاع، لا يزال الرئيس يعاني انقساماً شديداً بشأن الأسماء التي اقترحها ويقترحها لهذا المنصب.في أي حال، لن يكون سهلاً تصميم نجاد على السير بخططه، بعيداً عن الأقطاب الآخرين في البلاد؛ فمجلس الشورى سيبدأ الأحد المقبل التصويت على الثقة بكل وزير على حدة؛ من أصل 21 وزيراً اختارهم نجاد، هناك خمسة وزراء، بينهم ثلاث نساء، يواجهون إمكان عدم نيل الثقة. والأنكى من ذلك، حال الاستياء الدولي التي ستنتج من تعيين أحمد وحيدي، المطلوب بتهمة التورط في تفجيرات الأرجنتين، وزيراً للدفاع، والذي سيقدّم حجة إضافية لمحاصرة نجاد خارجياً.
عدد الثلاثاء ٢٥ آب ٢٠٠٩