29‏/8‏/2011

تحديّات الليبيين: حتى لا نلجأ إلى لغة التخوين

معمر عطوي


يدرك الليبيون جيداً أنّهم يقفون اليوم أمام تحديّات صعبة، وقد تكون خطيرة، إذا لم يحسنوا قيادة السفينة في الإبحار نحو ما يتوافق مع أهداف الثورة. أهداف تحقق شروط الحريات العامة والشخصية، وتنفذ آليات العمل الديموقراطي في مناخات من الاستقلال وحفظ السيادة الوطنية والحفاظ على مسلّمات قومية أساسية تتعلق ببقاء فلسطين القضية المركزية. لقد كلف القضاءُ على نظام استبدادي مترهّل الشعبَ الكثير من الوقت والجهد، وتحمّل أعباء المساعدات الخارجية، بل قل إنّه كلّفهم أكثر تبعات التدخل الأطلسي الذي لا يعطي من أجل سواد عيون الليبيين أو غيرهم، بل من أجل تحقيق مصالحه ومصالح دوله. ربما كانت الظروف القاهرة التي تولدت بفعل آلة القمع والقتل المُنظّمة التي مورست على مدى عقود في كلّ أنحاء الجماهيرية الليبية، قد أسهمت في وضع المعارضة الليبية ـــــ على تعدد مشاربها ـــــ أمام موقف حرج: إمّا الإستعانة بالآخر صاحب الأهداف الخطيرة، أو الرجوع إلى ما قبل 15 شباط 2011، وبالتالي تفويت الفرصة على ذلك الشعب المظلوم بنعمة الالتحاق بربيع الثورات العربيّة. لذلك، كانت قيادات المعارضة التي انتظمت في تشكيل سياسي سمته «المجلس الوطني الانتقالي الليبي» وجعلت مقره في بنغازي، حذرة في اختيار آليات التغيير، بما يتلاءم مع مفهوم الثورة للحرية والاستقلال والسيادة، وعدم رهن البلد للاستعمار الذي بات يتجسد بصور مختلفة.بالطبع، النموذج العراقي كان حاضراً بقوّة. بل كان بمثابة إنذار تنبيه من مرحلة لاحقة تسود فيها الفتن القبائلية والنزاعات السياسية وهيمنة فائقة للمشروع الغربي في استغلال ونهب خيرات الهضبة الأفريقية. هنا برزت المفاضلة: التخلص من حكم سياسي مستبد، وتحقيق مجتمع مدني قائم على قيم العدالة الاجتماعية يسير وفق آليات الديموقراطية الحقيقية، ويعطي للشعب دوره في ممارسة العمل السياسي ومحاكمة المقصّرين من المسؤولين؛ أو البقاء في ظل حكم مؤتمرات شعبية شكلية، لا تقرر سوى ما يراه الزعيم المخلوع معمر القذافي، الذي طالما وُصف بالجنون. حكم لم يعط الليبيين تعليماً نموذجياً ولا طبابة متطورة ولا ديموقراطية حقيقية أو حريات عامة. بالطبع، كانت الثورة مُدركة لحجم التحديات، وخطورة «اللعب مع القط» الأميركي. لكنّها كانت مُدركة أيضاً أنّ ما يعطيه «الأخ القائد» للغرب لن يكون أقل مما ستعطيه هي، وأنّ الأموال التي يبذخ بها «ملك ملوك أفريقيا» من جيوب شعبه في القارة السمراء، لإرضاء ساديته في مراقبة التناحر الدموي بين القبائل الأفريقية، لن تكون أقل مما سيدفعه القادة الواعدون من تكاليف عملية الناتو «الحامي الموحد»، وما ستمنحه للدول التي دعمت الثورة سياسياً ومالياً وببعض السلاح، من امتيازات في استثمار طاقات ليبيا الطبيعية. أمام ما شهدته عدسات آلات التصوير وما عرضته شاشات التلفزة من عمليات قتل مُنظّم وعشوائي للشعب الليبي من الجو والبحر والبر، كان لا بد من إجراء تلك المُفاضلة، بدلاً من اللجوء الى تخوين المجلس الوطني واتهامه بتسليم ليبيا على طبق من فضة للغرب، وتقديمها كقاعدة عسكرية متقدمة لحلف الأطلسي في شمال أفريقيا، تحت عنوان «محاربة الإرهاب الإسلامي» المُتمركز في مالي والنيجر والصحراء الكبرى.


بالطبع، لا يمكن غض النظر عن احتمال وجود قيادات في جسم المعارضة الليبية قد تكون تتعاون مع الاستخبارات الأميركية والغربية، ومنها من يسعى إلى تطبيق النموذج الأميركي في الاستهلاك والاقتصاد الريعي على تلك البقعة التي لم تعرف منذ أربعين عاماً سوى نظام فوضوي شخصاني، غير واضح الملامح. كذلك لا يمكن المرور مرور الكرام على الدور الفرنسي الذي تعاطى مع قضية تحرير ليبيا بشغف مُفرط، رغم أنّ الرئيس نيكولا ساركوزي، كان من أشد حلفاء القذافي، حين كان ذاك الأخير يحقق مصالح شركاته. والأمر نفسه ينطبق على إيطاليا سيلفيو برلسكوني، وبريطانيا طوني بلير، ومن أتى بعده. والأخطر من كلّ ذلك، أنّ صحيفة «ذا تايمز» البريطانية نشرت بنوداً من خطة المعارضة لما بعد القذافي، بينما يُفترض أن تكون تلك الخطة من أسرار الأمن القومي. فما بالك بإشراك الفيلسوف الصهيوني، برنار هنري ـــــ ليفي والصقر الأميركي جو بايدن، في رسم العديد من خطط للمعارضة.


بالتأكيد، حملت الثورة الكثير من الأخطاء التي تؤكد عدم وجود انسجام كاف بين أركانها المتعددة. وبقطع النظر عن تنوّع الساحة السياسية للثورة، ما بين ليبراليين وإسلاميين ويساريين وقوميين ووطنيين ومستقلين وشباب «فايسبوك»، هناك أشخاص وأطراف في قيادة المعارضة، لا بد أنّهم دخلوا لتحقيق مآرب أخرى، قد تصبح، إذا ما نجحوا في تسلّم دفة السفينة، وبالاً على الشعب الليبي.


بالتأكيد، أمام كلّ معضلة، فتّش عن أميركا، وإزاء كل مصيبة ابحث عن البيت الأبيض. فلو راقبنا الأحداث عن كثب لوجدنا أنّ الإدارة الأميركية في البداية كانت مترددة في الخوض بالشأن الليبي، لأنّها كانت مُقتنعة بأنّ «إمام المسلمين» القذافي، يلبي حاجاتها الاقتصادية ويحقق لها الكثير من الأهداف السياسية، من دون اضطرارها إلى خوض حرب جديدة، تكلّفها أثماناً باهظة في المال والأرواح، هي في غنى عن دفعها ما دامت تغرق في وحول العراق وأفغانستان، وتتخبط بأزماتها الداخلية.


لذلك، كانت تصريحات المسؤولين الأميركيين تحذّر من هوية الآتين إلى السلطة من المجهول، فهي لا تعرف مع من تتعامل وعلى أي أساس سيختار الليبيون ممثليهم. كان ذلك قبل موافقتها على القرار 1973 في مجلس الأمن الذي صدر في 17 آذار الماضي، فبدت حينها أنّها تلقت إشارات دولية، ومن داخل المعارضة، بأنّ ما يجري في ليبيا سيكون لمصلحتها، وخصوصاً أنّ شعاراتها في دعم التحوّلات الديموقراطية لا يمكن أن تصمد إن بقيت بمنأى عن التدخل في ليبيا أو أي بلد عربي آخر يعاني من الديكتاتوريات والأنظمة الوراثية. على هذا الأساس، دخلت بقوّة، وباتت في وقت لاحق تشتكي من أنّ جل الاعتماد في تنفيذ الضربات العسكرية لحلف الأطلسي على ليبيا يقع على عاتقها من دون غيرها من الحلفاء المشاركين.


ذروة التدخل الأميركي بدت يوم الهجوم على طرابلس في 20 آب الحالي، فقد سبق ذلك الهجوم لقاء بين مساعد وزيرة الخارجية الأميركية، جيفري فيلتمان، وقادة المعارضة في بنغازي. لقاء بدا كأنّه بمثابة الضوء الأخضر لحسم الأزمة الليبية، تمهيداً للتفرغ للملف السوري وغيره من القضايا العالقة. ختم ذاك الاجتماع سلسلة اتصالات ومحادثات سرية مع الحلقة القريبة من القذافي لتسوية النزاع مع معارضيه. لذلك كان انشقاق الرجل الثاني السابق في النظام، عبد السلام جلود، قبل ساعات من سقوط طرابلس، وربما كان مقتل القائد العسكري عبد الفتاح يونس، قبل أقل من شهر، تمهيداً لإعداد طاقم سياسي جديد لليبيا يتماهى مع المصالح الغربية. بيد أنّ تداعيات الأحداث التي شهدتها الهضبة الأفريقية منذ شباط، قد تحمل الكثير من المفاجآت لمصلحة الشعب الليبي، إذا ما عرف كيف يُحدّد لعبة تقاسم المصالح مع الدول الكبرى، من دون الوقوع في فخاخها. حتى لا نكون أسرى لغة التخوين، ينبغي إعطاء الشعب الليبي فرصة لإثبات مدى تمسكه بالثوابت الوطنية والقوميّة وبقيم السيادة والاستقلال؛ فالتحديات أمامه لا تزال صعبة، والأمر منوط بوعي القيادة المقبلة لطبيعة العلاقات مع الآخر، وفق سياسة نديّة تبادلية للمصالح لا تقوم على الارتهان للأقوى.






* من أسرة «الأخبار»






"الأخبار": 29 آب 2011

26‏/8‏/2011

القبائل أهم دعائم الثورة

 
معمر عطوي


منذ اندلاع شرارة الانتفاضة الشعبية في ليبيا في شباط الماضي، بدأت التحذيرات والتوقعات تتناول العامل القبلي ودوره في إذكاء النزاع على السلطة، ولا سيما أن قبيلة القذاذفة التي يتولى أحد أبنائها (العقيد معمر القذافي) السلطة على مدى 42 عاماً، هي من أصغر القبائل الليبية، بينما كان الملك محمد السنوسي، الذي انتزعت منه ثورة الفاتح من سبتمبر عام 1969 الحكم، ابن أكبر قبيلة (المقارحة).


لعل التهديد الأول قد جاء على لسان نجل العقيد القذافي، سيف الإسلام، بعيد اندلاع «ثورة 17 شباط»، حين حذّر من عواقب دخول بلاده في دوامة حرب أهلية إذا استمرت الاحتجاجات على النظام، بالقول إن «القبائل ستتقاتل في ما بينها في الشوارع». ولم يكن الزعيم الليبي المخلوع يتحدث من فراغ حين كان يغازل القبائل في معظم خطاباته ويحاول استمالتها إلى جانبه، مُحذّراً من تسليحها وجعل ليبيا «جمرة حمرة».


وبدا أن قائد الثورة، الذي أنهى عهد السنوسية من دون أن يخسر أبناء قبيلتها، قد اطمئن إلى أن «المقارحة» لن يقفوا ضده في معركته الأخيرة. لقد عمل المستحيل وقدّم الكثير من التنازلات لإطلاق أحد أبناء هذه القبيلة (عبد الباسط المقرحي) من سجن في اسكتلندا بعدما أُدين بتهمة تفجير طائرة ركاب أميركية تابعة لشركة «بان أميركان» أثناء تحليقها فوق قرية لوكربي بإسكتلندا سنة 1988. كذلك فإن القذافي منذ بداية نجاح ثورته قبل 42 عاماً وضع بعض أبناء القبيلة في مواقع مهمة وحساسة، مثل تعيين الرائد الركن عبد السلام جلود مساعداً له، وسلّمه أهم الملفات السياسية في البلاد. وكان انشقاق جلود وخروجه الأسبوع الماضي قد أسهما في تأييد قبيلة المقارحة للثوار. أما «المقارحي» الآخر، الذي وصل إلى مرتبة عالية في النظام، فهو رئيس جهاز الاستخبارات عبد الله السنوسي (المطلوب لدى المحكمة الجنائية الدولية). يوصف السنوسي بأنه عين القذافي وأذنه ويده اليمنى في إحكام السيطرة الأمنية على البلاد، وهو في الوقت نفسه نسيبه، إذ إنه متزوج من أخت صفية فركاش الزوجة الثانية للقذافي.


أما قبيلة الورفلة، فقد كانت إلى جانب القذاذفة والمقارحة في حلف أنشأه القذافي في بدايات عهده. لكن هذا الحلف لم يصمد طويلاً، فقد ثارت الورفلة (أكبر قبيلة، وعدد أبنائها مليون شخص) ضد نظام القذافي في أواسط التسعينيات من القرن الماضي، وقادت بمساعدة أبنائها الضباط الذين كانوا منتشرين في الجيش وقتها عملية عسكرية فاشلة بعد اغتيال حسن إشكال الذي يعدّ أحد قادتها البارزين، وتعرّض هؤلاء الضباط للقتل والسجن والتضييق عليهم. ثم عادت الورفلة أخيراً لتعلن انضمامها إلى انتفاضة الشعب الليبي. وسهّل أحد أبنائها العقيد البراني اشكال سقوط طرابلس، عندم فتح المدينة أمام الثوار من موقعه كقائد لكتيبة حماية القذافي.


فالقذاذفة لا يمكنها وحدها حكم البلاد. هي قبيلة صغيرة لا يزيد عدد أفرادها على مئة ألف شخص. لذلك كان تحالفها إلى جانب قبيلة أولاد سليمان مع المقارحة أحد أسباب إطالة عمر النظام، ولا سيما أن المقارحة هي ثانية أكبر القبائل.


لكن على الجانب الآخر، حظيت الثورة، وإن كان شعارها متجاوزاً للمسألة القبلية، بدعم قبائل عديدة ولها وزنها على الساحة الليبية. فقبيلة ترهونة وحدها يبلغ عدد أفرادها 350 ألف نسمة. وإضافة إلى ترهونة، هناك العديد من القبائل الليبية التي يصل عددها إلى نحو 140 قبيلة وفخذاً، منها الزنتان (كانت من أوائل المدن الغربية التي ثارت ضد السلطة وهي تتمركز في جبل نفوسة في الغرب).


وبحسب الخريطة الديموغرافية للجماهيرية الليبية، فإن انتشار القبائل على الصورة الآتية: العواقير والعبيدات الشرق وقبائل مصراتة في بنغازي (هذه المناطق في الشرق). أما القذاذفة فيتوزعون في مناطق الوسط وسرت وسبها وطرابلس، فيما يتمركز المقارحة في منطقة فزان (وسط) والورفلة في الجنوب والزوية في الشرق.


وفي مناطق الشمال الغربي يعيش أبناء من قبائل الورفلة وترهونة وصقر وبني وليد والزنتان، بينما تعيش في الجنوب الغربي قبائل الطوارق وفي الجنوب الشرقي قبائل التبو.


لقد أظهرت الوقائع على الساحة الليبية أن أبناء القبائل لم يكونوا وقوداً لفتنة كما استشرف النظام البائد وبعض المراقبين، بل كانوا أهم داعم للثورة


 
 
 
 
 
الأخبار: 26 آب 2011

22‏/8‏/2011

ليلة طرابلس وانبلاج «فجر عروس البحر»



كانت مفاجأة كبيرة تلك الليلة، التي تحولت فيها طرابلس من معقل للعقيد معمر القذافي، إلى ساحة يجول فيها معارضوه مرددين: «ارحل يكفينا 40 عاماً من الظلم»، بينما كان الثوار يتسلمون أسلحة المستسلمين من حامية النظام



معمر عطوي

لم يكد الاجتماع «التاريخي» بين مساعد وزيرة الخارجية الأميركية، جيفري فيلتمان، وقادة المعارضة الليبية يوم السبت الماضي (20 آب 2011)، ينتهي في بنغازي، حتى بدأت ملامح عملية «فجر عروس البحر» تتمظهر على نحو أوضح؛ فعلى ما يبدو، كان إعلان فيلتمان أن «أيام الزعيم الليبي معمر القذافي الباقية في الحكم معدودة»، بمثابة الضوء الأخضر الأميركي لنهاية العقيد المتحصّن في باب العزيزية بجنوب طرابلس. كيف لا والدبلوماسي الأميركي متخصص بشؤون الشرق الأوسط وخبير في أمور التدخل بقضايا عديد من الدول العربية.

على وقع أصوات القذائف وأزيز الرصاص وهدير أصوات طائرات «الأطلسي» المشبوهة الأهداف، كانت «عروس البحر» على موعد مع عشيق جديد لم تشهد الهضبة الأفريقية له مثيلاً منذ 42 عاماً، قضتها في أحضان زعيم متسلّط لم يسمح لها بالنظر إلى ما وراء الشاطئ والصحراء.

كان الثوار يعدّون العدة منذ أيام بتأمين أبرز الممرات الاستراتيجية التي تؤدي إلى العاصمة المقموعة بالرعب والخوف، فخاضوا أصعب المواجهات للسيطرة على بلدتين على جانبي العاصمة، هما الزلتان والزاوية (50 كيلومتراً غربي طرابلس)، بعدما تمكنوا من الاحتفاظ بمصراتة (200 كيلومتر شرقي طرابلس) لأشهر رغم شدة الحصار. وبعد ستة أشهر من اندلاع ثورة «17 فبراير» وعمليات الكر والفر، اقتربت المعارضة المسلّحة وقوات جيش التحرير الذي أسّسه المجلس الوطني الانتقالي في بنغازي (شرق) من معقل الزعيم الحصين، وباتوا قاب قوسين أو أدنى من «هتك» محرمات السلطة.

وبعد نجاح الثوار في قطع طرق الإمدادات إلى العاصمة، ولا سيما أن مصفاة الزاوية تمثّل أهم رافد الوقود لطرابلس، تحركت الجماهير الليبية داخل طرابلس كاسرة حاجز الخوف لتتماهى مع تقدم المقاتلين الآتين من الشرق (بنغازي وكافة المناطق التي كانت تحت سلطة المعارضة) والغرب (جبل نفوسة بالقرب من الحدود التونسية) والبحر (القادمون من مصراتة). وأصبحت قوات القذافي إلى الغرب من الزاوية وبالقرب من الحدود التونسية محاصرة فعلياً ومنعزلة عن خطوط إمداداتها الرئيسية.

وغداة ليلة ليلاء شهدتها طرابلس التي بقيت ساهرة حتى الفجر بانتظار الفاتحين، وأمام شاشات تلفزيون السلطة الذي كان ينقل خطاب سيف الإسلام نجل الزعيم الموعود بالعرش،وهو يتعهد بالقتال حتى آخر رجل ليبي، كانت شوارع طرابلس تلتهب بشعارات المتظاهرين ضد النظام وحمم الرصاص المنطلق نحو السماء فرحاً بليلة رمضانية تعيد أمجاد فتح مكة من التاريخ الإسلامي في ذكراها السنوية. لم تكن كل المحادثات السريّة والعلنية التي كانت ترتفع أصداؤها في وسائل الإعلام سوى أساليب لتقطيع الوقت وحمل المفاجآت.

فالطريق إلى جربة التونسية لم تعد سالكة أمام أنصار النظام الذين يقصدونها بهدف التباحث مع قيادات من المعارضة، بعدما قطعها الثوار، الأمر الذي آذن بتحرك آلاف العناصر المتطوعين لتحرير البلاد نحو طرابلس من جميع الجهات، فكان الهدف الأول ثكنة تابعة لكتيبة خميس التي يقودها أحد أبناء القذافي، والسيطرة على ما فيها من أسلحة وعتاد، فيما كانت سيطرتهم قد تمت بالكامل على عدد من أحياء المدينة مثل تاجوراء وسوق الجمعة.

وإثر خطاب صوتي متلفز من بين 3 خطابات في 24 ساعة شكك المراقبون بصحة توقيتها، كان القذافي يهاجم الثوار ويصفهم بالخونة والجرذان، مستخدماً شعار «الصليبيين» لتأليب الجماهير على حلف شمالي الأطلسي.

وبعد يوم رمضاني حافل بالمواجهات، كان الثوار قد وصلوا إلى فندق «ريكسوس»، ذي النجوم السبعة، حيث تحدث قبل ساعات قليلة رئيس الاستخبارات عبد الله السنوسي، إلى الصحافيين متهماً «الاستخبارات الغربية والحلف الأطلسي بالعمل مع القاعدة لتدمير ليبيا».

المفاجأة كانت في هذا الفندق الذي يقيم فيه صحافيون غربيون، حيث كان صيد الثوار الثمين. سيف الإسلام القذافي هناك، وقد وقع في أيديهم. وتضاربت المعلومات مع تقدّم ساعات الليل حول القبض على نجل آخر للقذافي، كان الابن الأكبر محمد الذي سلّم نفسه طوعاً، لمعرفة المعارضة بعدم تدخله بالسياسة طوال حياته.

قوات «الناتو» كما يحب أن يسميها الليبيون من معارضة وموالاة، كانت تمهّد الطريق أمام الثوار بقصف المراكز الحساسة، فقصفت مركز الاستخبارات والعديد من المنشآت داخل حصن باب العزيزية، فيما كان المتحدث باسم السلطة يتحدث عن سقوط مئات القتلى الليبيين وجرح الآلاف من دون أن ينكر حقيقة التحولات التي تعيشها البلاد.

لقد كانت ليلتا السبت والأحد عيداً سبق يوم «الفطر السعيد»، بما حمله من فرح للجماهير التي عبّرت عن سخطها من النظام السابق وفرحها بالآتين من المجهول، من خلال دوس كل رموز «ملك الملوك» و«قائد الثورة» الذي لم يتح لهم يوماً أن يتمتعوا بثروات بلادهم بفرض «تابُوات» تمنع حصول التغيير إلّا على أنقاض الجثث. «فجر عروس البحر» لاحت علاماته مساء السبت وتحقق الحلم فجر الاثنين، مع سقوط الجزء الأكبر من طرابلس والمناطق التي تسيطر عليها قوات النظام، فيما بقي قائد ثورة الفاتح من سبتمبر يدور في متاهته المجهولة.

الأخبار: 23 آب 2011

20‏/8‏/2011

تركة الجمهوريّين للديموقراطيّين: معتقلات وسجون سريّة

لم تختلف سياسة التعامل مع المعتقلين بين الإدارتين الجمهورية والديموقراطية في الولايات المتحدة الأميركية، إن من حيث إبقاء سجن غوانتنامو في الجزيرة الكوبية، والذي وعد الرئيس باراك أوباما منذ قدومه إلى البيت الأبيض في مطلع عام 2009 بإقفاله، أو لجهة أساليب اعتقال تذكّر بقضية السجون السريّة في أوروبا منذ أعوام قليلة



معمر عطوي

في الوقت الذي دعت فيه منظمة «هيومن رايتس ووتش»، مطلع الشهر الماضي، الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى فتح تحقيق جنائي مع سلفه جورج بوش الابن ومسؤولين رفيعي المستوى في إدارته متّهمين بالسماح بتعذيب سجناء، تصاعد الجدل على خلفية اعتقال سرّي لمواطن صومالي في نيسان الماضي، بين إدارة أوباما ومنتقديها الذين دانوا محاكمة الشاب المتهم بصلته بـ«القاعدة» وبـ«حركة الشباب» الصومالية أمام محكمة جنائية مدنية اتحادية.

وفي الوقت نفسه، كُشف عن أن وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية «سي آي إيه» تستخدم سجناً في العاصمة الصومالية مقديشو لتنفيذ أنشطة على صعيد مكافحة الإرهاب.

لقد عادت قضية الاعتقالات والسجون السريّة في عهد الرئيس الديموقراطي أوباما لتؤكد أن سياسة الاعتقال غير القانونية والمسيئة لحقوق الإنسان استمرت مع الإدارة الجديدة التي أتحفت الناخبين بشعار إقفال سجن غوانتنامو الذي يضم عدداً من عناصر تنظيمات إسلامية متهمة بممارسة أعمال إرهابية.

ورغم ما تواجهه الإدارة الحالية من اتهامات لأجهزتها الأمنية بممارسة اعتقالات غير قانونية، أصرّت «هيومن رايتس ووتش» على محاكمة العهد البائد الذي لم يترك جريمة بحق الإنسانية إلّا ارتكبها، أو دعم مرتكبيها، بدءاً بالعراق مروراً بفلسطين وأفغانستان والصومال وصولاً إلى لبنان (حرب تموز 2006).

إعادة تسليط الضوء على هذا الملف جاءت من خلال المدير التنفيذي للمنظمة الحقوقية الدولية، كينيث روث، الذي أكد أن «هناك أسباباً قوية لفتح تحقيق مع بوش ونائبه ديك تشيني ووزير دفاعه دونالد رامسفيلد والمدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية جورج تينت، لسماحهم بالتعذيب وارتكاب جرائم حرب».

مسؤولية العهد الحالي عن جرائم سابقة عبّر عنها تقرير لـ«هيومن رايتس ووتش» بعنوان «للانتهاء مع التعذيب: إدارة بوش وسوء المعاملة بحق السجناء». لقد جاء في التقرير أن«إدارة أوباما لم تحترم حتى اليوم التزام فتح تحقيق في أعمال تعذيب بحق المعتقلين الذين تتحمل مسؤوليتهم الولايات المتحدة بموجب الاتفاقية ضد التعذيب».

لقد أوضحت المنظمة أن جورج بوش اعترف علناً بأنه أقرّ ممارسة الإيهام بالغرق على الأقل في حالتين، وسمح بتطبيق برامج الاعتقال السري التي نفذتها «سي آي إيه». ورأت أن ديك تشيني هو الشخص الرئيسي الذي وضع سياستي الاعتقال غير المشروع والاستجواب، وأن دونالد رامسفيلد هو الذي وافق على وسائل الاستجواب غير الشرعية هذه، وجورج تينت هو الذي سمح وأشرف على قيام موظفي «سي آي إيه» بعملية الإيهام بالغرق.

هذا غيض من فيض ممارسات الإدارة الأميركية السابقة، فما هي ممارسات الإدارة الحالية؟ لعل ذلك يتّضح من خلال تلك التهم التي وجّهت إلى مسؤول صومالي في حركة الشباب الإسلامية بالإرهاب في نيويورك، بعدما استجوب لمدة شهرين على متن سفينة حربية أميركية، ليصبح أول حالة اعتقال سرية في عهد أوباما.

البيت الأبيض حاول التهرب من توضيح كيفية الاعتقال للحديث عن أن الصومالي المعتقل أحمد عبد القادر وارسام خضع لمعاملة التزمت قوانين الحرب، رغم أنه لم يحصل حتى على استشارة محام خلال هذه الفترة التي دامت شهرين ما بين الاعتقال والمحاكمة بتهمة الإرهاب.

وفيما بدأت المشكلة مع طريقة الاعتقال، إلا أن المحاكمة كانت موضع جدل حاد بين المعسكرين المسيطرين على المشهد السياسي في الولايات المتحدة. فقد واجه قرار أوباما بمحاكمة الصومالي الذي دفع ببراءته من التهم الموجهة إليه أمام محكمة جنائية، انتقادات حادة من الجمهوريين الذين يرون أنه «مقاتل من الأعداء كان يجب أن يَمْثُل أمام محكمة عسكرية في سجن قاعدة غوانتنامو العسكرية في كوبا».

ربما كان الجديد في المعاملة التي لقيها وارسام أن طريقة معاملة إدارة الرئيس الجمهوري السابق مع المعتقلين كانت باحتجازهم ومحاكمتهم في غوانتنامو بعيداً عن الأراضي الأميركية. لكن على ما يبدو، فإن الولايات المتحدة، بعد أقل من شهرين على اغتيال زعيم تنظيم «القاعدة» أسامة بن لادن، قد فشلت في إعادة تحديد توجهها الذي تريده «براغماتياً لا إيديولوجياً» في محاربة الإرهاب. استراتيجية جديدة لمكافحة الإرهاب أعلنت بوضوح منذ وصول باراك أوباما إلى السلطة، تضفي «الصفة الرسمية» على التبدلات التي حصلت منذ بداية 2009، حسبما أفاد أبرز مستشاري أوباما لمكافحة الإرهاب جون برينان.

فحسب الاستراتيجية، من المفروض خفض التهديد الذي يمر أولاً بالتقدم الاقتصادي والسياسي والاجتماعي على أنه «ترياق فعال» لمحاربة التطرف.

بيد أن ما أوردته مجلة «ذي نايشن» من أن وكالة الاستخبارات الأميركية تستخدم مجمعاً سرياً في الصومال إضافة إلى سجن يقع في العاصمة مقديشو لتنفيذ أنشطة على صعيد مكافحة الإرهاب، يعيد إلى الأذهان تجربة الإدارة السابقة في التعامل مع المعتقلين وملاحقة المطلوبين، ويذكّر بقضية السجون السريّة في أوروبا وما عُرف بالسجون الطائرة.

المجلة الأميركية التي ذكرت الخبر أكدت أن «سي آي إيه» تملك «مجمعاً واسعاً مغلقاً» على ساحل المحيط الهندي يضم أكثر من عشرة مبان خلف جدران حماية صلبة. وللمجمع مطاره الخاص ويحرسه جنود صوماليون، لكنّ الأميركيين يسيطرون على مداخله. وتذهب «ذي نيشن» أبعد من ذلك لتكشف عن «سجن سري» يقع تحت مقر الاستخبارات الصومالية، حيث يعتقل أشخاص يشتبه في أنهم أفراد في ميليشيا «حركة الشباب» الإسلامية المتطرفة أو على صلة بهذه المجموعة.

ووفق المصدر الذي زوّد المجلة بالمعلومات، فقد جرى اعتقال بعض السجناء في كينيا أو أمكنة أخرى، واقتيدوا إلى هذا السجن، موضحاً أن السجن يخضع رسمياً لسلطة الاستخبارات الصومالية، لكن عناصر في الاستخبارات الأميركية يقومون بعمليات الاستجواب ويدفعون رواتب للموظفين فيه، حسبما تنقل وكالة «فرانس برس».

من الواضح أن الممارسات الأميركية الحالية تُعدّ امتداداً لما كانت تفعله الإدارة الأميركية السابقة بالتعاون والتواطؤ مع دول أوروبية. لعل ذلك يعيد شريط وقائع السجون السريّة التي تورطت فيها وكالة الاستخبارات الألمانية BND، أواسط العقد الماضي. لقد تعرضت الوكالة للإساءة، بعدما ثبت تورّطها في قضية السجون السرية والطائرات التي نقلت مطلوبين لمصلحة وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية. قضية أعادت إلى الضوء تورّطاً سياسياً وأمنياً ألمانياً، في إطار تورط أوروبي عام، في نشاطات سرية استخبارية غير قانونية، كما وصفتها أكثر من جهة برلمانية وقانونية أوروبية.

لعل هذه الفضيحة كانت بمثابة الضربة القاضية التي وضعت وكالة الاستخبارات الألمانية في دائرة الاتهام المباشر، وخصوصاً بعد توجيه اتهامات أخرى إليها في السابق في موضوع التورط في اختطاف المواطن الألماني من أصل لبناني، خالد المصري، من مقدونيا واحتجازه في أفغانستان لمدة شهور، لاشتباه في الاسم مع مطلوب متورط في أحداث الحادي عشر من أيلول في نيويورك.

إضافة إلى ذلك، برزت حينها «طائرات الأشباح»، حيث أوردت الحكومة الألمانية قائمة تفصيلية لأكثر من 430 رحلة سرية قامت بها طائرات تابعة لـ«سي آي إيه»، نقلت خلالها سجناء إلى سجون سرية في أوروبا وخارجها، واستخدمت فيها الأجواء والمطارات الألمانية. لقد توسّعت دائرة التحقيقات في هذه القضية على مدى المنظومة الأوروبية، حين عبّر مشرعون من الاتحاد الأوروبي عن تأييدهم اتهامات بأن وكالة الاستخبارات الأميركية استجوبت أشخاصاً من دون سند قانوني يشتبه في ضلوعهم بـ«الإرهاب» على أراض أوروبية، ونقلتهم جواً إلى دول تمارس التعذيب.

هذا ما أكدته اتهامات منظمة العفو الدولية (أمنستي)، في تلك الفترة، لدول أوروبية عدة بينها أربع أعضاء في الاتحاد الأوروبي، وهي ألمانيا وإيطاليا والسويد وبريطانيا، بالتواطؤ مع «سي آي إيه» لنقل معتقلين محتملين إلى سجون سرية أحياناً. ووجهت «أمنستي»، في تقرير بعنوان (شركاء في الجرائم... الدور الأوروبي في البرنامج الأميركي لنقل السجناء)، أصابع الاتهام على نحو أساسي إلى كل من مقدونيا والبوسنة والهرسك وتركيا. ويقول أحد باحثي المنظمة إنه لولا مساعدة أوروبا لما كان هناك أشخاص حالياً يعانون من التعذيب في زنزانات موزعة على أنحاء العالم، متهماً بعض الدول الأوروبية بـ«تسليم أسرى إلى وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية».

أما في ما يتعلق بمعتقل غوانتنامو القائم على جزيرة كوبية استأجرتها الولايات المتحدة منذ عقود من الحكومة الكوبية، فإن التحسن الذي تحدث عنه وزير العدل الأميركي، إيريك هولدر، بعد وصول أوباما إلى البيت الأبيض، من أن المعتقل «يُدار بطريقة جيدة»، لا يلغي ضرورة من ضرورات البرنامج السياسي للإدارة الحالية والمتعلقة بوعد أوباما بإقفال المعتقل نهائياً.

وزير العدل الذي أشاد بإدارة المعتقل و«التسهيلات الجيدة»، أوضح يومها أن هذا لن يقلل في أي حال من التصميم على إغلاقه. لكن إغلاق غوانتنامو لم يحصل بحسب البرنامج الذي وعد به الرئيس الديموقراطي، وسياسة السجون السرية والاعتقالات الشبيهة بالخطف غير القانوني لا تزال سارية رغم رحيل بوش ورامسفيلد وتشيني.





--------------------------------------------------------------------------------



سجون في أوروبا



في تموز العام الماضي، أعلنت منظمة بولندية غير حكومية أنها حصلت على معلومات رسمية تفيد بأن سبع طائرات لها علاقة بوكالة الاستخبارات الأميركية حطّت خلال عامي 2002 و2003 في مطار سزيماني في شمال شرق بولندا، وأن خمساً من هذه الطائرات كانت تنقل ركاباً. ونقلت صحيفة «نيويورك تايمز» في حزيران 2008 عن شهود أن خالد الشيخ محمد، المتهم بالتخطيط لهجمات 11 أيلول 2001، استُجوب وتعرض للتعذيب في سزيماني.

وتأكيداً لهذه المعلومات، أصدر المقرر الخاص لمجلس أوروبا، السيناتور السويسري ديك مارتي، تقريراً في حزيران 2007 أفاد بوجود «ما يكفي من العناصر للتأكيد أن مراكز اعتقال سرية تعمل بإمرة سي آي إيه وجدت فعلاً في أوروبا بين عامي 2003 و2005، وخصوصاً في بولندا ورومانيا».

(الأخبار:20 آب 2011)



9‏/8‏/2011

«مبارك الكبير» عنوان أزمة

قنبلة موقوتة بين العراق والكويت

أزمة مرفأ المبارك، الذي تعتزم الكويت بناءه على تخوم الحدود مع العراق، ليست القضية الأولى من قضايا النزاع بين الإمارة الخليجية وبلاد الرافدين، فالقنابل الحدودية الموقوتة عديدة، وقاد بعضها الى نزاعات وحروب، لكن المسألة ظلت معلقة رغم صدور اتفاقات ترسيم عن الأمم المتحدة. هذا الملف الخلافي يعود اليوم إلى واجهة الأحداث. وتؤكد المعطيات أن الأمور تتجه نحو التصعيد بعد صدور بيان حمل توقيع «حزب الله العراق» يهدّد بضرب الميناء بثلاثة صواريخ في حال مباشرة العمل ببنائه. بيد أن الكويت لا تزال تتسلّح بوثيقة عراقيّة تقرّ بأن الميناء يقع في منطقة سيادتها



معمر عطوي

يبدو أن الودّ المستجد بين العراق والكويت، والذي جاء على أنقاض عقود من العداء، لن يدوم طويلاً. إذ تمثّل قضية الحدود البحرية امتداداً لقضايا حدودية أخرى تثير النزاع بين الدولة والإمارة. ميناء «المبارك الكبير» هو العنوان الأبرز للخلاف اليوم، يكاد يتحوّل إلى تهديدات متبادلة. فالميناء الكويتي سيبنى في جزيرة بوبيان التي تقع في أقصى شمال غرب الخليج العربي، وتعدّ ثاني أكبر جزيرة في الخليج (890 كيلومتراً مربعاً) بعد جزيرة قشم الإيرانية.



ويبعد مكان الميناء أكثر من 1299 متراً عن أقرب نقطة عراقية و4000 متر عن الحدود الكويتية العراقية في أقصى شمال غرب الخليج، هو جزء من مشكلة أكبر بين البلدين، منها العلامات الحدودية وملف الأسرى والمفقودين.

وبحسب خبراء عراقيين، فإن الحدود المرسومة منذ عام 1934 جرت عليها تعديلات بتأثير من الجانب الكويتي، وقامت لجنة التحكيم الدولية عامي1991 و1992 برسم حدود جديدة «استقطعت خلالها أراضي عراقية وحقولاً نفطية كثيرة من ناحية صفوان وأم قصر ضمّتها للكويت، فضلاً عن تقليص مساحة المياه الإقليمية العراقية». الخبراء العراقيون يتذرّعون بأن اللجنة الدولية لم يكن فيها عضو يمثل الحكومة العراقية، لهذا اعتبر هذا الترسيم غير قائم من الناحية القانونية. وتبين أن هذا الإجراء جاء تنفيذاً لقرار مجلس الأمن الدولي الرقم 833 عام 1993 الذي نص على ترسيم الحدود بين العراق والكويت والبالغ طولها 216 كيلومتراً، ورفضته الحكومة العراقية حينذاك.

وبالعودة الى أزمة ميناء المبارك الكبير، فإن القضية الأساسية التي تمثّل جوهر الخلاف فيه هي أنه سيحرم بغداد من مرفأ على البحر، حسبما يرى مصدر عراقي مسؤول تحدث لـ«الأخبار» في العدد 1455 الصادر في 7 تموز الماضي. أما النائب عن التحالف الوطني طالب شاكر الجعفري، فقد رأى أنه «في حال إنشاء الميناء فوق نقطة التالوك الموجودة في منتصف البحر ستطرأ مشكلة كبيرة، لكون النصف الثاني من البحر مياهاً ضحلة لا يمكن الإبحار عبرها». المصادر العراقية التي تحدثت لـ«الأخبار» يومها رأت أن نية الكويت إنشاء هذا الميناء جاءت بتحريض أميركي هدفه الضغط على بغداد للعمل على التمديد لقوات الاحتلال الأميركي للعراق.

كذلك فإن وجود هذا الميناء في هذه المنطقة سيكون عائقاً في دخول البضائع ودخول البواخر إلى ميناء أمّ قصر الجنوبي والشمالي وإلى ميناء خور الزبير. وهذا حقيقة سيكون حجر عثرة باتجاه الاقتصاد العراقي، وبالتالي إذا ما أنشئ هذا الميناء قد تتوقف الموانئ العراقية، حسبما يؤكد المسؤول الإعلامي لموانئ البصرة، أنمار الصافي.

لعل ما يزيد الطين بلة هو اشتراك العراق مع الكويت في أكثر من مجرد مدخل بحري ضيق إلى الخليج، إذ يربطهما تاريخ طويل مرير من الخلاف على النفط والمياه والحق في الأرض التي يصب فيها نهرا دجلة والفرات في البحر.

ورغم وثيقة عراقية تقول إن حكومة بغداد على علم ودراية بتشييد الكويت لميناء مبارك، وأنه قد نوقش الأمر بين الجانبين عام 2007، بعدما تألّفت لجنة عراقية برئاسة وزارة الخارجية العراقية وعضوية وزارات النقل والتجارة والنفط والبيئة، فإن رئيس الوزراء العراقي، نوري المالكي، أعلن أن بلده لم يطّلع على المشروع «إلا من طرف ثالث».

وبالتالي، ثمة التباس يحيط بالمشروع الكويتي والمواقف العراقية على حد سواء. فبحسب الوثيقة الموقّعة بيد وزير الخارجية هوشيار زيباري، فإن الميناء يقع تحت سيادة الكويت وداخل حدودها البحرية. لكن العراق يرى أن تشييد الكويتيين للميناء يمثّل ضرراً على مصالحه ويخنق اقتصاده وملاحته البحرية، رغم تأكيد الوثيقة المذكورة عدم إضرار ميناء مبارك بمصالح العراق.

وما يزيد الالتباس حول هذه القضية نفي رئيس الوزراء العراقي، علمه بنية الكويت بناء ميناء على حدودها مع العراق، أو أن يكون قد تم إطلاعه على هذا المشروع إبان زيارته للكويت بداية العام الجاري، رغم أن وزير الخارجية الكويتي، محمد الصباح، يؤكد أن بلاده أطلعت المالكي على المشروع آنذاك.

القضية بحسب النائب الكويتي فيصل المسلم، هي أن «النفس العراقي لا يزال نفساً عدائياً كارهاً للكويت»، فيما يرى المتحدث باسم الحكومة العراقية، علي الدباغ، أن «الحكومة العراقية تدعو الكويت وحفاظاً على العلاقات الأخوية بين البلدين إلى أن يكون التعاون من خلال اللجنة العراقية المكلفة بمتابعة هذا الموضوع بتزويدها بالمعلومات المطلوبة للوصول الى موقف يحفظ حقوق العراق وشعبه». وبغداد التي أثارها تشييد الميناء، المُفترض الانتهاء منه عام 2016، طالبت الكويت رسمياً في تموز الماضي بوقف العمل في المشروع إلى حين التأكد من أن حقوق العراق في المياه المشتركة لن تتأثر. دعوة سارعت الكويت الى رفضها، مؤكدة أن أعمال البناء ستستمر.

وهذه هي المرة الأولى التي تطلب فيها الحكومة العراقية رسمياً وعلى نحو صريح من الكويت وقف العمل في ميناء مبارك، بينما قامت الأخيرة بمحاولة طمأنة الجانب العراقي، مشيرة إلى «أن ميناء مبارك الكبير لا يمثّل أي إعاقة لا من قريب ولا من بعيد للملاحة البحرية في خور عبد الله». لكن العقدة وصلت الى ذروتها مع تهديد كتائب حزب الله العراق بقصف الميناء في حال مباشرة العمل ببنائه، الأمر الذي دفع الى تصلب الموقف الكويتي. موقف عبّر عنه وكيل وزارة الخارجية خالد الجار الله، أول من أمس بقوله إن «التهديدات لا تخيفنا والمشروع يمضي قدماً كما هو مقرر».

ومع استمرار العراق في تسديد تعويضات غزو الكويت، وآخرها دفعة بقيمة مليار و60 مليون دولار، تتحول قضية الحدود قنبلة موقوتة من غير المعروف متى تنفجر.





--------------------------------------------------------------------------------



1,1 مليار دولار للبناء



منذ نيسان الماضي، حين وضعت الكويت الحجر الأساس لبناء ميناء «مبارك الكبير» في جزيرة بوبيان، بدأ خبراء عراقيون بتحليل الآثار التي يمكن أن تنجم عن هذا البناء، معتبرين أن بناء الميناء سيؤدي الى «خنق» المنفذ البحري الوحيد للعراق، لأنه سيسبّب بجعل الساحل الكويتي ممتداً على مسافة 500 كيلومتر، بينما يكون الساحل العراقي محصوراً في مساحة 50 كيلومتراً.

ويتوقع أن ينجز المشروع في عام 2016، إذ بدأ العمل به في أيار الماضي من خلال مجموعة من الشركات بقيادة الشركة الكورية الجنوبية «هيونداي». لكن العراق طلب من الكويت «التوقف عن العمل» بعد عشرة أيام، ريثما يتأكد من أنه لا ينتهك حقه في المياه المشتركة والملاحة.

وسيُبدأ في تشغيل الميناء، المُقدّرة كلفة بنائه، بنحو 1,1 مليار دولار، بأربعة أرصفة مخصصة للحاويات يمكنها استقبال ما يعادل مليوناً و800 ألف حاوية سنوياً، وستنجز المرحلة على 3 أجزاء.

الأخبار: 9 آب 2011