29‏/1‏/2011

العلاقات الصينيّة الأميركيّة: صدام فتعاون فاحتواء

أكدت زيارة الرئيس الصيني، هو جينتاو، الأخيرة إلى واشنطن، أن العلاقة بين الصين والولايات المتحدة باتت تسير وفق صيغة جديدة قائمة على التعاون الاقتصادي والتفاهم في الأمور الخلافية بدل الصدام وسباق التسلح. ولعل الإشارة الأهم في هذا السياق، هي زيارة وزير الدفاع الأميركي، روبرت غيتس إلى بكين، حيث وصل التعاون العسكري إلى ذروته
معمر عطوي

كان الرئيس الصيني، هو جينتاو، واضحاً خلال زيارته للولايات المتحدة في التاسع عشر من الشهر الجاري (دامت أياماً عدّة)، في تحديد أولويات السياسة الصينية تجاه الخصم التاريخي في شمال الكرة الأرضية. فقد أكد في خطاب أمام لجنة الأعمال الصينية الأميركية أن بلاده ملتزمة بحل سلمي للنزاعات وبموقعها العسكري «الدفاعي»، متعهداً بـ«ألا نخوض أي سباق تسلح مع الولايات المتحدة أو نمثّل أي تهديد عسكري لأي دولة، والصين لن تسعى إلى السيطرة أو التوسّع».
لكنه لدى طرحه القضايا الخلافية الرئيسية بين الصين والولايات المتحدة، أعرب عن التزام حكومته ببناء «بلد اشتراكي حديث»، رافضاً أي تدخل أجنبي في قضيتي تايوان والتيبت اللتين قال إنهما «تخصّان سيادة الصين وتماسك أراضيها وتلامسان شعور 1.3 مليار صيني».
ويبدو أن الموقف الصيني الجديد الذي بات يضع الاقتصاد في قائمة أولويات المصالح الحيوية للبلاد، قد تماهى مع التغيرات التي حدثت في السياسة الأميركية عبر مراحل بدأت مع سباق التسلح والصدام في عهد الإدارات الأميركية المتعاقبة، وخصوصاً في مراحل تصاعد نفوذ المحافظين الجدد، وبين مرحلة الرئيس الحالي باراك أوباما. مرحلة فضّل فيها الأميركيون سياسة التعاون كوسيلة للاحتواء وتجنب إثارة مناطق جديدة لاستنزاف الجيش الأميركي وراء البحار.
فلطالما ظلّت الصين الحمراء هدفاً رئيسياً للساسة الذين توالوا على الإدارات الأميركية من ديموقراطيين وجمهوريين على حد سواء، رغم تحوّل الاقتصاد الصيني، في مرحلة لاحقة، من اقتصاد اشتراكي موجّه، إلى ليبرالي يعتمد آليات السوق الرأسمالية. وتباينت خطط الإدارات الأميركية أيام ما كان يُعرف بالحرب الباردة، في التعاطي مع عدو تاريخي يهدّد مصالحها، في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، مروراً بالشرق الأوسط. فبعدما فشلت الولايات المتحدة في تدمير الصين، على غرار المنظومة الاشتراكية في شرق أوروبا، لجأت الى أساليب أخرى، منها الاحتواء الاقتصادي والتعاون العسكري.
وشهدت مرحلة الرئيس الأميركي رونالد ريغان تغييرات في التعاطي مع جمهورية الصين الشعبية، إذ لان موقفه كثيراً مع تقدّم ولايته، لتبدأ في حزيران 1981 رحلة الصداقة التي قام بها وزير الخارجية، ألكسندر هيغ، إلى بكين. سياسة معتدلة أرساها ريغان تجاه الصين تُمثّل امتداداً لسياستي الرئيسين، ريتشارد نيكسون وجيمي كارتر، اللتين وضعتا تعزيز العلاقات بين القوّتين الأميركية والصينية نصب  أعينهما.
أما في عهد جورج بوش الابن، حيث بات التنين الصيني، قوة اقتصادية حقيقية، فقد أصبحت الرؤية مختلفة مع المحافظين الجدد. ولعل ما أعلنته وزيرة الخارجية آنذاك، كوندوليزا رايس، من أن الصين تتعاون والولايات المتحدة على قضايا تتراوح بين محاربة الإرهاب والحفاظ على الاستقرار في شبه الجزيرة الكورية، يشير الى اقتناع أميركي بأن التنين بدأ تحوّله نحو فخ الاحتواء، الذي نصبته واشنطن للنظام الحديدي، وخصوصاً أن هذا النظام بات مرشّحاً لأن يصبح القوة الثانية الاقتصادية في العالم بعد الولايات المتحدة، محتلاً موقع اليابان. لكن الليبرالية الصينية في الاقتصاد لم تكن لتُقنع واشنطن بأن النظام الشيوعي أصبح في دائرة الاحتواء. اقتناع عبّر عنه رايس في محاولة لإيجاد ذرائع أخرى تبرّر استمرار سياسة التضييق على الصين، بقولها «إن حصول أهل الصين على قدر أكبر من التعليم، من حريّة التفكير، ومن روح المبادرة، من شأنه، باعتقادنا، أن يفضي، بالضرورة، إلى قدر أكبر من الحريّة. وتبرّر هذه السياسة توظيف تعاون القوى الكبرى في حل النزاعات المتفاقمة من الشرق الأوسط إلى كشمير فالكونغو وغيرها».
الواضح أن الولايات المتحدة في ظل إدارة بوش وقفت عاجزة عن تكبيل الصين وفرض سيادتها عليها. ذلك رغم أن الإدارة الأميركية تبنّت رؤية نائب الرئيس ديك تشيني، التي تقول إن الولايات المتحدة لا تتفاوض مع الأشرار، بل تحبطهم وتلحق الهزيمة بهم.
بيد أن رؤية المحافظين الجدد في التعامل مع الصين لم تنجح، بل سرعان ما أُجهِضت بعد هجوم 11 أيلول في نيويورك، حيث سارعت بكين إلى إعلان دعمها لأميركا في حربها على الإرهاب. لكن يبدو أن انقساماً حاداً في الإدارة الأميركية قد طرأ على جدول الأعمال الخاص بالملف الصيني، إذ حذّرت، مراراً، وكالة الاستخبارات الأميركية الكونغرس من تعاظم القوى العسكرية في الصين، مهملةً أي ملاحظة عن مساندة الصين للولايات المتحدة في حربها على الإرهاب، وعمّا قدّمته من مساعدات في قضية كوريا الشمالية واستمرارها باستخدام الوسائل الاقتصادية السلمية من أجل توسيع نفوذها.
ويمكن أن تكون الرؤية الجديدة لواشنطن تجاه الصين جزءاً من استراتيجية جديدة في القرن الواحد والعشرين. وفي أيّ حال، كان المحافظون الجدد دائماً متيقنّين الى مدى خطورة الصين، لكن لم يكونوا ليتصوّروا صعود هذا العملاق الشيوعي إلى هذا المستوى من التفوق، بآليات رأسمالية. وهذا ما بدا من خلال موقف وزير الدفاع السابق رامسفيلد في صيف عام 2005، حين أعلن من سنغافورة، أن «قدرات بكين الصاروخية والبحرية والجوية، باتت تهدد موازين القوى ليس فقط في حوض آسيا ـــ الباسيفيك، بل أيضاً في كل العالم».
أمّا زيارة زيارة وزير الدفاع الأميركي، روبرت غيتس، إلى الصين في النصف الأول من هذا الشهر، فتحمل رسائل عديدة: الأولى تتعلق بالتحضير لمناقشات الرئيس الصيني، مع نظيره الأميركي، والتي كان التعاون العسكري في مقدمها. ثانياً، إرساء عقيدة جديدة لدى الأميركيين تنسحب من الاقتصاد والسياسة الى العسكر تحت شعار التعاون. وتعبّر الرسالة الثالثة عن خشية أميركية من تعاظم القوة البحرية للصينيين بالقرب من البحر الأصفر وبحر اليابان، حيث تنتشر حاملات الطائرات الأميركية الى جانب القوات العسكرية الكورية الجنوبية واليابانية. فقادة الولايات المتحدة يعبّرون دائماً عن قلقهم من سرية انتهاج الصين تطوير أسلحة تقليدية متطورة تبدو أنها تستهدف الولايات المتحدة.
أما الرسالة الرابعة، فهي التلويح بالعصا في وجه كوريا الشمالية، بأن بكين التي دعمت بيونغ يانغ لعقود، والتي لم تجد مانعاً من موافقة واشنطن على عقوبات دولية ضد النظام الكوري الستاليني لمرتين متتاليتين، قد تنصاع لرغبة واشنطن في المسألة الكورية إذا حقّقت لها أميركا بعض مصالحها الاستراتيجية.
في المقابل، بدا أن الصين التي حذّرت من المناورات العسكرية الأميركية الكورية الجنوبية قبالة سواحلها الجنوبية، قد تعمّدت تجربة الطائرة الشبح «جاي ــ 20» خلال زيارة غيتس الى بكين، لتوجيه رسالة إلى واشنطن بأن سياسة التعاون لا تمنعها من الاستمرار في سباق التسلح وتعزيز قدراتها العسكرية، وخصوصاً بعدما باتت حاملات الطائرات الأميركية على مرمى حجر من سواحلها. وفي السياق نفسه، كانت دعوة المسؤولين الصينيين وزير الدفاع الأميركي، لزيارة موقع نووي عسكري، في منطقة موتيانيو، مانحة إيّاه لمحة نادرة عن التحكم بالأسلحة التي يمكن يوماً ما أن تطلق على الولايات المتحدة.
من الواضح أن المحادثات الأمنية بين الجانبين الأميركي والصيني، تركز بشدة على الدفاع الصاروخي والنووي، وكذلك الحرب الإلكترونية والعسكرية واستخدامات الفضاء. إذ يمتلك الطرفان صواريخ بإمكانها الوصول الى شواطئ الطرف الآخر.
وما لم ينطق به غيتس في بكين، فاضت به قريحته بعد يومين في طوكيو، إذ رأى خلال زيارة لليابان أن القدرات العسكرية الصينية المتطورة في الحرب الإلكترونية والأقمار الاصطناعية، يمكن أن تهدّد قدرة القوات الأميركية على العمل في المحيط الهادئ. وكرر غيتس تعبيره عن قلق واشنطن من تحديث جيش التحرير الشعبي الصيني الذي عرض قوّته بإجراء أول اختبار على مقاتلة شبح.
بيت القصيد، أن العلاقة بين الولايات المتحدة والصين لن تكون علاقة متينة كما توحي التصريحات الإيجابية من الجانبين، فتنافس المصالح والنفوذ ومصادر التوتر أكبر من أن تحلّها زيارات متبادلة سياسية أو عسكرية. فعمليات الرصد والمراقبة التي تقوم بها البحرية  الأميركية على السواحل الصينية، ومبيعات الأسلحة الى تايوان، وعرض قوات المارينز عضلاتها في منطقتي آسيا والمحيط الهادئ، كل ذلك يشير الى أن التعاون لن يكون سوى شهر عسل قصير الأجل.
الصين بين رؤيتين أميركيتين
يطرح روبرت كيغان، أحد منظّري المحافظين الجدد، في كتابه «عودة التاريخ ونهاية الأحلام»، فكرة إنشاء «رابطة للدول الديموقراطية» غايتها الدفاع والمحافظة على مصالح هذه الدول في وجه الصعود المتزايد «للديكتاتوريات الكبرى»، وبخاصة روسيا والصين. أما روبرت كابلان فقد توقع في «أتلانتيك مانثلي»، «حرباً أميركية ساخنة كبيرة مع الصين، أو سلسلة من المجابهات على نمط الحرب الباردة التي ستستمر عقوداً طويلة».
في المقابل، يقول الباحث لدى معهد «بروكينغز»، كين بولاك، إنه يجب على الولايات المتحدة دعوة الصين إلى الانخراط في قضايا الشرق الأوسط ـــ من إيران إلى العراق، إلى النزاع العربي الإسرائيلي»، واصفاً الصينيّين بأنهم «نجوم الروك بالنسبة إلى الشرق الأوسط»، وخاطب بولاك الساسة الأميركيّين، قائلاً «عليكم أن تسمحوا لهم (للصينيين) بالدخول، وعليكم أن تجعلوا منهم شريكنا».
الأخبار: السبت ٢٩ كانون الثاني ٢٠١١

25‏/1‏/2011

الثورة وأسئلة التغيير لبنانياً

معمر عطوي

تطرح الثورة التونسية المفاجئة العديد من الأسئلة على المواطن العربي بشأن إمكانيات تحويل قدراته العفوية إلى فعل تغيير، في ظل استمرار أنظمة استبدادية قمعية لا تتيح لشعوبها حرية الحركة في سبيل تحسين أوضاعهم الاجتماعية، على أقل تقدير. بيد أنّ المسألة اللبنانية تختلف في واقعها وظروفها وتركيبتها الدستورية عن باقي البلدان العربية، بما يطرح أسئلة استثنائية حول شروط إمكان فعل تغييري كبير في هذا البلد الصغير.
لعل أهم هذه الأسئلة، هو عن أهمية العفوية التي تميزت بها هذه الثورة غير المؤدلجة، التي انطلقت من حاجة اجتماعية ملحّة تفاقمت بفعل ضغوط سلطوية طالت الأمن والاقتصاد والتنمية والتعليم وكل نواحي الحياة التي تمس المواطن في لقمة عيشه وكينونته الإنسانية.
إذن، هي ثورة لم يسبقها بيان شيوعي ولا حلقات دعوية تطرح شعار «الإسلام هو الحل»، بل انطلقت من شرارة جسد، لخّص باحتراقه كلّ عناوين الأزمة الحاصلة، من محسوبيات وقمع واسئثار بالسلطة ونهب للخيرات القومية ومُصادرة للحريّات وتهجير للعقول الناشطة في مجالات المجتمع المدني والفكر السياسي الديموقراطي ورموز النضال.
هو جسد محمد البوعزيزي الذي احترق لينير طريقاً مظلماً منذ عقود، فأشعل بذلك جذوة ثورة لم تكن نتيجة إعداد خلايا سريّة مسلّحة ولا تتويجاً لتنظيم صفوف ضباط في الجيش أرادوا الانقلاب على النظام، ولا هي حصيلة أفكار عقائدية انتشرت في الجامعات لتصنع نواة حزب سياسي يعلن تسلم الحكم بعد اجتثاث كل رواسب الطغيان السابق.
ربما لهذه الأسباب، كان عنوان الثورة هو رغيف الخبز، وأدبياتها «إذا الشعب يوماً أراد الحياة». وربما لهذه الأسباب، لم يتغير الطقم السياسي الحاكم والنخبة العسكرية السابقة، مباشرة بعد هروب الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي إلى السعودية. كانت الثورة بداية تغيير قد تحتاج لشهور، وربما سنوات، حتى تتبلور معالم صورتها في الحكم، ونظمها الفكريّة، وعلاقاتها الدولية، ورهاناتها المستقبلية، لا سيما آلياتها في التعاطي مع الهمّ الشعبي وحاجات المواطن الأساسية.
لكن في أي حال، لا يمكن الحديث عن قطيعة بين منجزات الشعب التونسي الأخيرة وبين إرهاصات سبقت هذه الثورة. من هذه الإرهاصات ما جاء بفعل السلطة البائدة وممارساتها التي ألّبت الناس ضدها، ومنها ما هو حصيلة شحن وتثقيف متواصلين عبر عقود من الزمن لنخب سياسية، لا يمكن التقليل من شأن حركتها ونشاطها في التأثير في الواقع السائد.
لعل ما يميّز هذه الثورة، التي قد تُستنسخ في العديد من دول المنطقة فيما لو وعت الشعوب أهمية ترك الأيديولوجيا جانباً حين تُمس لقمة عيشها، هو البنية المجتمعية التونسية القائمة على هوية دينية واحدة بغالبيتها، ومذهب واحد. ولا يعني الحديث هنا عن هذه الهوية أنّ أحاديتها هي السبب في نجاح الثورة، بقدر ما يشير الواقع الى البنية الاجتماعية اللبنانية والعوائق المذهبية أمام التغيير.
يمكن الحديث عن تأثيرات ماركسية بالقدر نفسه الذي تتمتع به التيارات الإسلامية أو القومية في تونس، خصوصاً أنّ الشعب التونسي متميز بثقافته السياسية، التي كانت سبباً في إبعاد العديد من رموز التيارات السياسية، على تنوعها، الى خارج البلاد.
وبما أنّ الشعب التونسي، كما بيّنت التجارب السابقة، هو شعب مسالم مقارنة بالشعب الجزائري الجار، أتت حركته العفوية استجابة طبيعية ومشروعة لاستبداد طويل الأمد. استبداد ساهم في نفاد صبر المواطن البسيط، الذي لا يهمّه من التغيير سوى تحصيل حاجاته الأساسية والعمل، وفق أدبيات الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري، الذي قال «عجبت لمن لا يجد في بيته قوت يومه كيف لا يخرج شاهراً سيفه». فالحديث عن تغيير جذري هنا، يبدأ من ترسيخ سياسة اقتصادية عادلة، وصولاً الى العمل وفق دستور ديموقراطي عصري لا يستبعد من تكويناته إلا الطغمة التي سرقت ونهبت وعاثت فساداً. تغيير لا يمكن القول إلا أنّه حصيلة العديد من التجارب النضالية المتراكمة التي اختصرها جسد شاب عاطل من العمل، شعر بمهانته فأراد الحياة على طريقة شاعر بلاده الكبير أبي القاسم الشابي، واستجاب القدر بسرعة.
أما في الواقع اللبناني الذي شهد في السبعينيات من القرن الماضي حركات مطلبية استجابت لظلم التفاوت الطبقي، ثم ما لبثت أن تحوّلت الى حرب طائفية تتعلق بمكاسب هذه الطائفة أو امتيازات تلك، فالأمر مختلف عما جرى في تونس، اختلافاً جذرياً.
لقد أسهمت الحرب اللبنانية في تأسيس طبقة ورثت بعض الإقطاع السياسي السابق، لتكوّن طوائف إقطاعية حديثة. كل طائفة تتسلّح بمصالح مجتمعها في ممارستها للسرقة، وتتذرع بفساد رموز الطائفة الأخرى حين تتعرض للسؤال «من أين لكم هذا؟».
تمادت هذه الطبقة في ممارسة وضع اليد على حقوق المواطن وثرواته، بمباركة ومشاركة من قوى خارجية لعبت دور الوصي الشرعي، مثل سوريا، أو قامت بالغزو العسكري، مثل إسرائيل، ومن خلفها الولايات المتحدة وبعض دول الغرب.
واختلط حابل التنمية الاقتصادية بنابل السياسة الدفاعية وكرامة الوطن. فنشأ التزاوج بين اقتصاد رفيق الحريري الذي يتغذى من توزيع الثروات والرشى على المحسوبين والأزلام، لتحقيق مشاريعه الخاصة، وبين طبقة سياسية متنفّعة ركبت موجة التحالف مع المقاومة وسوريا من أجل أن يطالها بعض حصص من هذه السرقات المُنظّمة، فباتت معادلة حماية المقاومة منوطة بالسكوت عن السرقات، التي سميت خطأً هدراً. هذه المعادلة، التي تورط فيها حزب الله بما هو فصيل بات وحده يمارس العمل المقاوم بعدما أُصيبت الفصائل الأخرى بأزمات مالية وأيديولوجية وبنيوية، بدا واضحاً أنّه سيدفع ثمن تداعياتها وحده. ذلك جراء ما نشهده من هجوم منظّم على وجوده وكيانه السياسي في لبنان وحضوره بما هو حالة استنهاض شعبية في المحيط العربي.
من هنا صار لزاماً على حزب الله، الذي لم يكن قبل عام 2004 مشاركاً في الحكومة، أن يتلقّى الانتقادات والاتهامات لتحالفه مع طغمة من رموز الفساد السابق، وتغطيتهم طائفياً. وبذلك أصبحت الجماعة المذهبية في المعسكرين، غطاءً شرعياً للفساد هنا أو للخيانة الوطنية هناك، ما أدى الى ظهور وضع جديد لا يمكن الحديث معه عن معسكر طهراني بالمطلق أو معسكر فاسد بالمطلق، بل عن معسكرين، واحد ضد المقاومة وآخر مع المقاومة. وغاب عن وعي القيمين على أمور المقاومة، وما تمثله من إنجازات تركزت أخيراً على الجانب الأمني والتقني، أنّ العمل المقاوم هو عمل تغييري، وبالتالي، قد لا يصح وجوده بمعزل عن عمل تغييري آخر يتعلق بتحسين شروط حياة المواطن وعدم السكوت عن السرقات والفساد حتى لو كان من جهة تدّعي مساندة المقاومة.
انطلاقاً من هذه الذهنية الحاكمة، شاركت المقاومة، ولو بنحو غير مباشر، في بلورة صيغة فائقة البشاعة، من أجل تعزيز معسكرها في الحياة السياسية اللبنانية. صيغة لم تتخذ من المقاومة سوى عنوان عسكري وأمني، فيما كلمة مقاومة تعني التصدي لكل ظلم سياسي واجتماعي واقتصادي وطبقي، حتى لو كان من ذوي القربى.
بهذا المعنى، تختلف الصيغة السياسية اللبنانية عن الصيغة التونسية، لوجود هذه الاعتبارات الطائفية التي تمنع السياسي السني من فضح فساد السياسي الشيعي والعكس بالعكس. وبهذا المعنى يسكت حزب الله، الذي يضع مقاومة اسرائيل في أولوياته، عن انتقاد قيادي من تيار حليف، رغم اعتراف هذا الأخير بالاتصال مع ضباط استخبارات العدو الاسرائيلي. كلّ هذه الازدواجية في التعاطي سببها الحد من استثارة النزعات الطائفية «حفاظاً على استقرار البلد».
وربط استقرار البلد بترك الأمور على وساختها، يجعل الصيغة اللبنانية، بالمعنى التونسي، صيغة متخلفة لا يمكن أن تتحول الى صورتها الطهرانية التي يرسمها لنا جهابذة السياسة من هذا المعسكر أو ذاك.
لهذا لا يمكن القول إنّ الشعب اللبناني يريد الحياة، ولا يمكن للقدر أن يستجيب لهذا الشعب، الذي يصرّ على النزول الى الشوارع هائجاً كالثور حين يتعلق الموضوع بالدفاع عن «قدسية» رجل دين هنا أو مسلسل تلفزيوني هناك يمس بهذه المجموعة البشرية أو تلك. وحين يخرج رجل الدين ليملي على هذه الغوغاء فتواه بأن «هذا الموقع السياسي يمثل الطائفة وكل من يهاجمه فإنّه يعتدي على الطائفة»، فتلك هي آخر درجات التخلف السياسي.
لعل الفرق بين لبنان وتونس هو أنّ في لبنان «رموزاً» تختصر هذه الطائفة وتلك، لا يمكن المساس بها، حتى لو سرقت وعاثت في البلاد فساداً، بينما في تونس ثمة جسد شاب احترق ليختصر تفاصيل الوطن.