25‏/9‏/2000

رائحة طازجة


الى شهداء صبرا وشاتيلا وكل المجازر

في تلك الليلة كان المقاتلون قد رحلوا عبر البحار وبقيت البيوت عارية الا ّ من الشعارات التي بدت كفسيفساء تشكيلية . كان كلب الحي يعوي بصوته الغريب الذي تميزه بحّة واضحة ,وكان رفيقي قد ترك كوفيته في منزلي وذهب لينام هناك حيث العتمة والأحجار المتراصة كبيوت قطعان الماعز,كان هناك بيته "الوقتي" ريثما ينفذ قرار العودة.
حدثني رفيقي في تلك الليلة عن رجال ملثمين رحلوا تحت جنح الظلام ,وعن هدير آليات غريبة تطوق ا لمخيم,وعن وجوه جديدة وأخرى مألوفة كانت تنظر للنساء والاطفال العّزل بسخرية وتهكم..
ترك كوفيته ومشى نحو منزله البائس ,وغطـَت عيناي في نوم عميق, كانت ليلتي سوداء كما هو الوطن ,وكان اللون الاحمر يصبغ خيوط حلمي .
أبصرت رفيقي صاحب الكوفية أكثر من ألف مرة يمد يده لي لأعطيه الأمانة فيختفي ثم يعود وما يلبث ليختـفي ,كان الدخان يغطي المشهد وأصوات القذائف تكاد تسد أذني ,ومن بين قذيفة وأخرى كنت أسمع عويلا ً وصرخات استغاثة.
يا الهي ماذا يحدث؟.. ما هذا الحلم المزعج؟.
انتصب المخيم أمام ناظري كأنه جريح يكاد يهوي وظهرت صورة تلك المرأة التي شربنا عندها الشاي في" يوم الأرض" . لمحت وجه رفيقي ينظر الي بدهشة ,بوجه أسود مطـّرز بحيوط حمراء شاهدت جنازير الدبابات ملتصقة بلحوم آدمية وآثار دماء متخثرة .
وعلى الجانب الآخر كان الصبية يبكون جدّهم المسجى بلا رأس ولا يدين.
وما كاد الفجر يطل حتى هرعت من نومي الى النافذة مذعورًا .. وكان المشهد على طبيعته , دخانًا وقذائف وعويلاً ورائحة دماء "طازجة"..
حملت كوفية رفيقي ومشيت نحوا لمخيم ,كان الليل قد انتهى والحلم قد صار مشهدًا حقيقيًا.
وصلت الى بيت رفيقي المهدم وصرت أبحث بين أكوام الجثث المتناثرة عن جسده الفتي ,وفجأة , لمحت ذلك الوجه البريء أبصرت فيه كل تاريخي وذاكرتي, شاهدت كل شوارع القدس العتيقة محفورة على خارطة جسد رسمت بالخناجر والبلطات . كانت جمجمته لامعة كقبة الصخرة , جميلة بجمال الشهادة.
لقد أبصرت في عينيه يحي المقاتل يودعني من ا لزورق على بعد أميال داخل البحر ,وعلى شفتيه ظلت ابتسامته عالقة لم تفارقه حتى في عالمه الآخر, تلك الابتسامة التي كانت تطل ممزوجة بكلمة "الأمل".
كانت رائحة الموت تعبق في المكان ورفيقي يحدق بعيني "يحي" ووجه جدتي الشهيدة. وضعت الكوفية على وجهه ورحلت الى دموعي وحسرتي الى ذكرى الناس الذين قتلوا في مجزرة سابقة, تحولت الى شريط طويل من الوجع.
عكاظ في:27 جمادى الآخرة 1421
الموافق 25 سبتمبر 2000م
معمر عطوي - جدة