25‏/6‏/2008

اشتراكيّو صربيا يستسلمون لإغراءات الغرب


معمر عطوي
وأخيراً، حسم الاشتراكيوُّن الصربيّون قرارهم وانضّموا إلى التيّار الموالي للغرب، مستسلمين للإغراءات التي دفعتهم إلى ترك مواقعهم السابقة، تحت تأثير «هالة» استقلال كوسوفو. الحزب الاشتراكي القومي الصربي (20 نائباً)، الذي كان يمثّل بيضة القباّن في المفاوضات «الشاقّة» بين القوميين ــــ الراديكاليين والديموقراطيين، حسم موقفه، محدداً موقعه على المسرح السياسي على طريقته، بخلاف التوقعّات.ثمة معسكران على هذا المسرح: الأول يمثّله «الحزب الديموقراطي الصربي» بزعامة رئيس الحكومة السابق، فويسلاف كوستونيتشا، وحزب «صربيا الجديدة» (30 نائباً)، إضافة إلى «الحزب الراديكالي الصربي» (78 نائباً من أصل 250)، الذي يقوده حاليّاً فويسلاف نيكوليتش.أمّا المعسكر الآخر الموالي للغرب، فيقوده «الحزب الديموقراطي» بزعامة رئيس البلاد بوريس تاديتش، ويتألّف من ائتلاف أحزاب تحت اسم «نحو صربيا أوروبية»، والذي حصد العدد الأكبر من المقاعد في الانتخابات الأخيرة (103 نواب).وبحكم قرب الحزب الاشتراكي الصربي من المعسكر الأول، كانت المفاوضات تسير على أساس أن هذا الحزب هو من سيحسم المعادلة لمصلحة التيار المناهض للغرب. وذلك بحكم العلاقة الجيدة التي تربط الاشتراكيين بالقوميين، التي أكدها نيكوليتش بقوله «إننا سنجري محادثات مع الأحزاب القريبة إيديولوجياً من حزبنا».لكن إعلان الزعيم الاشتراكي، إيفيكا داتسيتش، أول من أمس، «تأليف حكومة مع التحالف المؤيّد لأوروبا»، وضع حداً للتكهّنات، رغم التفاؤل الجلي في تصريحات مسؤولي المعسكر الأول. فقد أعلن «الحزب الراديكالي الصربي»، منذ قرابة أسبوع، أن التوقيع على اتفاق لتأليف حكومة ائتلافية بات قريباً، ولا سيما بعد تلقيه الضوء الأخضر لتأليف الحكومة مع الحزبين الديموقراطي الصربي والاشتراكي، من رئيسه، فيوسلاف سيسلج، الذي يحاكم في لاهاي لاتهامه بارتكاب جرائم حرب بحق مسلمي البوسنة في تسعينيات القرن الماضي.عزّز هذه التكهنات الاتفاق الذي وقّع عليه في 16 أيار، كلّ من الحزب الاشتراكي والحزب الراديكالي، والذي ينصّ على أن تترّكز أولويات الحكومة الجديدة على الحفاظ على وحدة أراضي صربيا، بما فيها كوسوفو، وتحسين الاقتصاد الوطني ومواصلة الجهود للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.في النتيجة، كان لا بد للإغراءات والضغوط التي مورست على الاشتراكيين أن تؤتي أكلها، فما لم ينجح مع كوستونيتشا نجح مع الاشتراكيين، رغم وحدة الحال التي جمعت هؤلاء مع القوميين والراديكاليين لسنوات طويلة.وسائل الإعلام المحليّة تحدثت عن تنازلات كبيرة قدّمها الرئيس تاديتش، الذي تولىّ المفاوضات مع الحزب الاشتراكي في سبيل إنجاح المفاوضات معه لتأليف حكومة ائتلاف تحرم الأحزاب المعارضة لسياسته الوصول إلى السلطة.وأوضحت المصادر نفسها أن الحزب الديموقراطي قدّم للحزب الاشتراكي عرضاً يصعب رفضه، من خلال منحه مناصب وحقائب وزارية مهمّة، منها وزارة الأمن والطاقّة إضافة إلى منصب نائب رئيس الوزراء ورئيس البرلمان.وعلى ما بدا من خلال التطورات التي رافقت المفاوضات، فإن الحزب الاشتراكي كان ميّالاً أكثر إلى المعسكر الثاني. توضّح ذلك حين أعلن أنه يتفاوض مع الطرفين، لكنه «سيأخذ في الاعتبار أيضاً حقيقة أن اللائحة (نحو صربيا أوروبية) حصلت على عدد كبير من الأصوات».وفي ما يتعلق بحزب رئيس الوزراء السابق، كوستونيتشا، فقد كان أهم أسباب انقلابه على تاديتش: العلاقة مع الاتحاد الأوروبي ومسألة استقلال كوسوفو. قضيّة دفعته في 13 آذار إلى حل البرلمان وإعلان إجراء انتخابات مبكرة في 11 أيار الماضي. طبعاً كانت هناك أمور أخرى أسهمت في انقلاب كوستونيتشا، الذي صدّق الغرب في البداية، في أنه سينقل صربيا إلى مرحلة من النمو الاقتصادي والرفاه، فيما كانت النتيجة خلال الثماني سنوات الأخيرة، أن سياسة الحكومة الموالية للغرب وإصلاحات السوق الصعبة لم تجلب للصرب سوى المهانة والفقر (50 مليار دولار ما بين ديون مسجلّة وأخرى مستترة، فضلاً عن الفساد والصفقات المشبوهة التي تجرى تحت عنوان الخصخصة).أمّا في الطرف الآخر، فقد بدا الانزعاج واضحاً لدى مؤيّدي الغرب. انزعاج يمكن إدراكه من خلال تصريح للحزب الديموقراطي اتهم فيه كوستونيتشا بأنه «خدع ناخبيه» و«خان» أعضاء حزبه لأنه لم يشر قبل الانتخابات إلى أنه سيؤلّف حكومة مع الراديكاليين.بيت القصيد هنا، أن ما واجه تأليف الحكومة من عقبات كان من المتوقّع أن يستغرق حلّها وقتاً أطول، كان أمراً طبيعياً، بحكم عدم حصول أي من المعسكرين على غالبية تؤهّله لتأليف الحكومة منفرداً: لم يتمكن الائتلاف الموالي للغرب من ذلك رغم حصوله على دعم الأحزاب الصغيرة الأخرى مثل الحزب الليبرالي الديموقراطي وتجمعات الأقليات المسلمة والهنغارية والألبانية (حوالى 7 مقاعد جميعاً).لذلك، كان الحزب الاشتراكي بما يملكه من مقاعد هو بيضة القبّان بالنسبة إلى كلا الطرفين.مما لا شك فيه، أن النزاع سيستمر قائماً بين المعسكرين رغم حسم مسألة تأليف الحكومة. إذ إن المعركة المقبلة لن تتوقّف عند مسألة كوسوفو، بل ستكون في المستقبل القريب على مقاطعة فيفودينا المرشّّحة للانفصال أيضاً. فالتيار القومي ــــ الراديكالي المتنامي، الذي صعد نجمه في السنوات الأخيرة كردّة فعل طبيعية على ممارسات الغرب التي فكّكت يوغوسلافيا وستؤدي إلى تفكيك صربيا. ردة فعل برزت بعدما شعر الرأي العام بـ«دَوس كرامته» القوميّة.
الاخبار:٢٥ حزيران ٢٠٠٨

هوسرل يجادل كانط وديكارت


الفينومينولوجيا أو الحلّ الفلسفي لنظريّة المعرفة
معمر عطوي
فكرة صائبة، تلك التي اعتمدتها المنظمة العربية للترجمة، بإناطة تعريب «فكرة الفينومينولوجيا» (Die Idee der phaenomenologie) بالدكتور فتحي إنقزو، أستاذ الفلسفة التونسي، الذي يعدّ من المتخصصين بأعمال الفيلسوف الألماني إدموند هوسرل (1859-1938). تخصُّص برز من خلال ثلاثة كتب: «هوسرل واستئناف الميتافيزيقا» و«هوسرل ومعاصروه: من فينومينولوجيا اللغة الى تأويلية الفهم» و«مدخل إلى مسألة العلامة في فينومينولوجيا هوسرل».

23‏/6‏/2008

ناغورني كاراباخ نزاع تحت الرماد



«استقلال» بدعم أرمني ورفض أذري... وصراع خفيّ أميركي ــ روسي

لا يبدو أن اللقاء التاريخي بين الرئيس الأذري، إلهام علييف، ونظيره الأرميني، سيرج سركسيان، في 6 حزيران الجاري، قد حمل أي تباشير أمل بحلّ مرتقب لمشكلة إقليم ناغورني كاراباخ، المتأزمة بين باكو ويريفان منذ عام 1988، والتي يبدو أنها لا تزال مرشّحة لمواجهة العديد من الاحتمالات
معمر عطوي

لم تفلح الوساطات العديدة خلال السنوات الماضية في إرساء حلّ سلمي نهائي للنزاع بين أرمينيا وأذربيجان حيال إقليم ناغورني كاراباخ. النزاع، الذي أودى بحياة أكثر من 30 ألف شخص من الجانبين بين عامي 1988 و1994، لا يزال مخيماً في سماء هذا الإقليم الذي يجثم في غرفة العناية الفائقة، حيث تتنازع مصالح الدول الكبرى على ثروات بحر قزوين وجواره.ورغم قرار وقف إطلاق النار الذي توصلت إليه مجموعة «مينسك»، المنبثقة عن لجنة الأمن والتعاون الأوروبي (أصبحت اليوم منظمة الأمن...) في عام 1994، والتي يتولى رئاستها مندوبون عن روسيا وفرنسا وإسبانيا، استمّر النزاع المُسلّح بمراحل متفاوتة ليؤدّي إلى سقوط أكثر من 100 قتيل.لقد اندلعت الحرب بين الدولتين القوقازيتين في شباط 1988 على خلفية ادعّاء كل من يريفان وباكو السيادة على إقليم ناغورني كاراباخ الذي كان تحت سيطرة أذربيجان يومها. وخرجت ناغورني كاراباخ، ما عدا محافظتي شوشا وخوجالي، عن السيطرة الآذرية في كانون الأول سنة 1991. وتبعتها في فترة ما بين 1992 و1993، 7 محافظات أخرى مجاورة للإقليم.ودفع ارتفاع وتيرة العنف بلجنة الأمن والتعاون في أوروبا في صيف عام 1992 إلى إنشاء مجموعة مينسك المؤلفة من 11 دولة من أجل التوسّط في حلّ النزاع. وفي مبادرة دبلوماسية أميركية فاشلة، عُقدت قمة تاريخية في نيسان 2001 في مدينة كي ويست بولاية فلوريدا الأميركية، تحت رعاية المنظمة الأوروبيّة، جمعت الرئيسين السابقين الأرميني روبرت كوتشاريان والأذري حيدر علييف، من دون أن يسفر هذا اللقاء عن نتائج مهمة.وتكرّر المشهد في 6 حزيران الجاري بين رئيسي البلدين الحاليين، سيرج ساركسيان وإلهام علييف، على هامش اجتماع لوزراء الدول الأعضاء في المجلس الأوروبي في مدينة ستراسبورغ، بيد أن هذا اللقاء اقتصر على التعارف.وكان الوسيط الأميركي، ستيفن مان، قد أعلن في 13 شباط 2006، عدم توصّل رئيسي جمهوريتي أرمينيا وأذربيجان إلى اتّفاق بشأن مصير ناغورني كاراباخ، وذلك بعد يومين من المفاوضات في قلعة رامبولييه جنوب العاصمة الفرنسية باريس. اجتماع نُظّم بوساطة من فرنسا والولايات المتحدة وروسيا التي شاركت جميعها في المحادثات. وناقش هذا الاجتماع الذي يعدّ الأهم خلال خمسة أعوام قضايا عديدة، أهمها «خروج القوات الأرمينية من الإقليم الأذري» حول كاراباخ وإجراء استفتاء لسكان المنطقة في إطار حق تقرير المصير.وفي العاشر من كانون الأول عام 2006، جرى الاستفتاء على دستور هذه الجمهورية، التي أعلنت تأسيسها بمعزل عن المجتمع الدولي. وعدّت السلطات في باكو هذا التصويت «مساً بالقانون الدولي». وهدّدت بالحرب لاستعادة السيطرة على الإقليم.ولم تتمكّن مجموعة مينسك من تحقيق أي إنجاز يذكر على صعيد بلورة حل للأزمة، ولا سيما أن مصالح الدول الاقتصادية وأهمية هذه المنطقة مثّلت عقبة إضافيّة في طريق الحلّ، وخصوصاً بعدما استُبعدت أرمينيا عن خط أنابيب باكو ــــ تبليسي ــــ سيهان، الذي يربط بين أذربيجان وجورجيا وتركيا.فكما هو معروف أن المنطقة تحوي ثروات طبيعية غنية وإمكانات اقتصادية وصناعية وزراعية كبيرة. هذا الواقع خلق تخوفّاً روسيّاً من سياسة أذربيجان، التي تتحالف مع واشنطن وتسعى إلى دمج اقتصادها في الاقتصاد العالمي.لقد ساهمت سياسة باكو في بلورة هواجس موسكو من خلال اتفاقات مع دول غربيّة في مجال استغلال حقول النفط والغاز الأذرية. ووقّعت معاهدات ضخمة بشأن الاستغلال المشترك مع «كونسورتيوم» الشركات الدولية، ما يسمى بمعاهدة القرن. فحسب التقديرات الأولية، يتوقع استخراج ٣٥٠ مليون برميل من النفط من تلك الحقول.الى جانب ذلك، تعدّ أذربيجان دولة مهمة من حيث موقعها الجيوسياسي عالمياً. إذ إنها تقع في ملتقى أوروبا مع آسيا. وتهدف في المستقبل إلى أن تنضم لمنظومة الاتحاد الأوروبي. ومن الطبيعي أن تكون لإيران أيضاً مصالح في تلك المنطقة، ولا سيما أن إيران وأذربيجان تتشاركان ثروات بحر قزوين. ناهيك أن البعد الديموغرافي يجعل المصالح متداخلة بين باكو وطهران، حيث يعيش في إيران قرابة 30 مليون مواطن من القوميّة الأذرية.بيد أن الاهتمام الإيراني بأرمينيا خلق حالاً من الفتور لدى باكو، وخصوصاً أن الجمهورية الإسلاميّة استطاعت استغلال حاجة يريفان لمصادر الطاقة مثل النفط والغاز. هذه الحاجة دفعت أرمينيا إلى تنفيذ مشاريع طاقة ضخمة مع إيران، مثل خط أنابيب لنقل الغاز وخط ثالث للكهرباء ومحطة كهرومائية ضخمة لتوليد الطاقة الكهربائية على نهر آراكس وغيرها من مشاريع، تعزّزت في ظل وقوف إيران إلى جانب أرمينيا في نزاعها مع أذربيجان.ثمة عقبة أخرى حالت دون تسوية النزاع، تمثّلت في قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، الذي صدر في 14 آذار الماضي، والذي يدعم حق أذربيجان في هذا اللإاقليم، مطالباً الجانب الأرميني بالانسحاب منه.بناءً على ذلك، تؤكد تطورات الأزمة وتشعباتها، وجود البعد الإقليمي ــــ الدولي للنزاع، الذي تمثله الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي السابق (في ما بعد دولة روسيا الاتحاديّة). ويرى الرئيس الأذري الراحل حيدر علييف «أن الموقف الجائر الذي كانت القيادة السوفياتية تتّخذه تجاه أذربيجان بلا شك، أثار موجة عدم الرضى الكبيرة جداً بين سكان جمهوريتنا ضد النظام الشيوعي السوفياتي. عندما ازداد هذا السخط الشعبي في نهاية سنة ١٩٨٩ ضد جور القيادة الشيوعية للاتحاد السوفياتي تجاه الشعب الأذري، قرّرت الرئاسة السوفياتية (التي كانت تدعم النظام الأرميني آنذاك) كسر إرادة شعبنا من خلال إدخال أعداد كبيرة من الجيوش السوفياتية إلى آذربيجان في ٢٠ كانون الثاني سنة 1990».في المقابل، تستعرض أرمينيا وجهة نظر أخرى بشأن هذا النزاع، حسب تصريح للرئيس السابق، روبرت كوتشاريان، الذي يقول إن «نقطة النزاع هي بين أذربيجان وناغورني كاراباخ، ثم أقحمت فيها أرمينيا. هذا هو التعريف الأدّق الذي يعطي الصورة الحقيقية للأشياء». ويضيف أن الذي حدث بعد انهيار الامبراطورية السوفياتية أنه «ظهرت في المنطقة دولتان مستقلتان بحسب كل المعايير المتبعة في ذلك الوقت: جمهورية أذربيجان وجمهورية ناغورني كاراباخ، ونحن نعتقد أن قانونية وجود ناغورني كاراباخ كدولة مستقلة غير قابل للتشكيك. كانت هناك محاولة إخضاع هذه الجمهورية لأذربيجان، وبالنتيجة كانت الحرب. هذا هو سبب النزاع الذي يحاول كل طرف تقديمه بأشكال مختلفة».وبرأي كوتشاريان، أن ناغورني كاراباخ دولة مستقلة، وأنها لم تكن في يوم من الأيام ضمن جمهورية أذربيجان المستقلة، «أنا نفسي ولدت في ناغورني كاراباخ وفي وقت من الأوقات تزعّمت حركة الاستقلال. نحن لن نكون أبداً ضمن أذربيجان المستقلة».
الاخبار:٢٣ حزيران ٢٠٠٨

21‏/6‏/2008

الكفاح المسلّح: من أغوار الأردن إلى أنفاق غزة




كان الكفاح المسلّح رمز القضية الفلسطينية. أبقاها على طاولة التداول العالمي، وإن بصفة «إرهاب» أقنع العالم بضرورة البحث عن صيغة حلّ للشعب الفلسطيني. من أغوار الأردن إلى جنوب لبنان وصولاً إلى غزّة والضفة الغربية، مسار مقاومة لم توقفه طاولة المفاوضات
معمر عطوي
الكفاح المسلح كان صلب القضية الفلسطينية، وطريقاً وحيداً للتحرير، بحسب ما نص عليه الميثاق الوطني الفلسطيني قبل تعديله بعد اتفاقيّة أوسلو، إذ ورد في المادة التاسعة منه أن «الكفاح المسلح طريق وحيد لتحرير فلسطين». واعتبر في المادة 10 «أن العمل الفدائي يشكل نواة حرب التحرير الشعبية الفلسطينية وهذا يقتضي تصعيده وشموله وحمايته وتعبئة كافة الطاقات».لم يكن موعد الطلقة الأولى للثورة الفلسطينية في عام 1965 كما هو رائج. بل سبقتها، وعلى مدى عقود، سلسلة من النشاطات الحربية ضد عصابات اليهود الاستيطانية ومن ورائها الاحتلال البريطاني. واستمرت إلى ما بعد النكبة عام 1948. لكن عام 1964، كان الموعد الرسمي لانطلاقة العمل الفدائي لحركة التحرير الوطني الفلسطيني «فتح»، في إطار منظمة التحرير الفلسطينية وبدعم من أنظمة عربية.وعى الشعب الفلسطيني خطورة ما تحوكه القوى العظمى بقيادة بريطانيا منذ أواخر القرن التاسع عشر، فهبَّ لمحاربة المشروع الغربي ــــ الصهيوني بكل الوسائل المُتاحة، على تواضعها. وتزامن ذلك مع بدء الهجرة اليهودية إلى فلسطين، مروراً بوعد بلفور وتداعياته المأساوية وصولاً إلى اتفاقات التسوية التي عقدت بين الفلسطينيين والإسرائيليين منذ أوسلو عام 1993.وقد مرّت المقاومة المسلّحة، بمراحل عديدة: بدأت منذ عام النكبة 15/ 5/ 1948، وشهدت في الخمسينيات عمليات فدائية جريئة انطلقت من قطاع غزة نحو الأراضي الفلسطينية المحتلة، وكانت بدعم مصري، وأخرى على الحدود السورية ــــ الفلسطينية بدعم سوري. ثم دخلت مرحلة ثانية في 28/ 5/ 1965 مع إنشاء منظمة التحرير.غير أن المنعطف الخطير الذي واجهته القضية الفلسطينية، برز بعد فشل الوحدة السورية ــــ المصرية عام 1961، ووصل إلى ذروته مع هزيمة عام 1967. حينها أصبح نصف أعضاء المجلس الوطني الفلسطيني تحت الاحتلال، حيث بات من المُلحّ أن تتحول منظمة التحرير إلى بنية للعمل الفدائي المُسلّح.لقد هيّأت الظروف التي رافقت انطلاقة الرصاصة الأولى في بداية عام 1965، بلا شك، لنشوء فصائل عديدة من المقاومة الوطنية والقومية واليسارية، المتولّدة بمعظمها من رحم حركة القوميين العرب؛ فكانت الجبهة الشعبية والجبهة الديموقراطية وغيرهما من فصائل المقاومة المُسلّحة التي بدأت من منطقة الأغوار في الأردن ومرّت في لبنان ولا تزال مستمرة في الضفة الغربية وغزة، حيث أصبحت الأنفاق على الحدود مع مصر إحدى أهم وسائل دعمها.ومرّت القضية الفلسطينية بمخاضات عسيرة، إذ تحوّل دعم النظام الرسمي العربي لمجموعات فدائية، من نعمة لهذه القضية إلى نقمة نخرت جسدها، حتى باتت أسيرة للتجاذبات العربية ــــ العربية، ووقوداً للحروب الباردة بين الشرق والغرب.ويرى الكاتب حميدي العبد أن «الأموال النفطية، أدّت دوراً كبيراً في إنشاء عدد كبير من الكوادر، ما ولّد شريحة داخل حركة التحرر الوطني الفلسطينية بدأت تساوم على خط الكفاح المسلّح، مدعومة بالتحوّلات التي شهدها الوطن العربي بعد وفاة عبد الناصر، وبعد تحوّل مصر إلى خيار الارتباط بالغرب، وبالتحديد الولايات المتحدة».ولعلّ أكثر المشاهد مآساوية في تاريخ العمل الوطني الفلسطيني، كان حوادث أيلول الأسود عام1970، التي أسهمت في إنهاء الكفاح المسلّح من منطقة الأغوار شرقي نهر الأردن، لينتقل بعدها إلى لبنان في إطار ما عُرف يومها باتفاقية القاهرة 1969.في الدورة الخامسة للمجلس الوطني الفلسطيني، التي عقدت في القاهرة عام 1969، انتخب المجلس لجنة تنفيذية جديدة للمنظمة، انتخبت بدورها ياسر عرفات رئيساً لها في أول اجتماعاتها. وأنشأت قيادة «الكفاح المسلَّح»، لتكون نهاية المرحلة الثانية من تاريخ هذا الكفاح.وجاءت المرحلة الثالثة ما بين عامي 1970 و1982، وانتهت بخروج القوات الفلسطينية من لبنان. وتميّزت بابتكار أساليب جديدة لإيصال القضية الفلسطينية إلى العالم من خلال العمليات الأمنية الخارجية وخطف الطائرات، ولا سيما عمليات الذراع الخارجية للجبهة الشعبية بقيادة الدكتور وديع حداد (أبو هاني) وجهاز العمليات الخارجية في حركة «فتح» بقيادة أبو حسن سلامة، وتخلّل ذلك عمليات أمنية متبادلة بين إسرائيل والأجهزة الأمنية الفلسطينية كان من بينها اغتيال القادة الثلاثة في بيروت (أبو يوسف النجار وكمال ناصر وكمال عدوان).بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، دخلت الفصائل المقاومة في مرحلة المنافي الجديدة، من الجزائر حتى تونس وليبيا والعراق واليمن. تخلّلت هذه الفترة تصفية قيادات في منظمة التحرير مثل خليل الوزير (أبو جهاد) وصلاح خلف (أبو إياد)، وفي ما بعد قائد حركة الجهاد الإسلامي، فتحي الشقاقي. وقد استمرت حال المنظمات الفلسطينية المسلّحة على هذه الصورة حتى اتفاقية أوسلو وما أفرزته من اتفاقات قضت بانتقال القيادة إلى فلسطين المحتلة ونشوء سلطة على الأراضي الفلسطينية بقيادة أبو عمار.لكن هذه التطورات سبقتها أساليب جديدة وناجعة في العمل المقاوم، تمثلَّت بانتفاضة شعبية انطلقت في شهر كانون الأول من عام 1987، وباتت هذه الانتفاضة المنعطف الهام في كفاح الشعب الفلسطيني. ثم تلتها انتفاضة ثانية في عام 2000.وبحسب رأي الباحث الفلسطيني، ماجد كيالي، فإن «التحوّل من الانتفاضة الشعبية المدنية إلى المقاومة المسلّحة، في الانتفاضة الثانية، إنما حدث بحكم عوامل عديدة، منها أن الفصائل التي كانت تعمل في الخارج نقلت تجربتها إلى الداخل، فهي الحامل الموضوعي لهذه التجربة. ثم إن التنافس بين الفصائل، وتحديداً بين فتح وحماس، عزّز الطابع العسكري للانتفاضة».ويقول المُحلّل العسكري في صحيفة «يديعوت آحرونوت» رون بن يشاي، استناداً إلى مصادر أمنية في تل أبيب، إن المقاومة الفلسطينية غيّرت من تكتيكها، وباتت الآن تحارب الجنود الإسرائيليين وجهاً لوجه، لأنها توصلت إلى قناعة بأن مواصلة إمطار جنوب الدولة العبرية بالصواريخ يعود عليها سلباً لدى الرأي العام العالمي، ويمنح إسرائيل الحقّ في الرد بعمليات عسكرية على قيام الفلسطينيين بقصف مناطق مأهولة بالسكان، مشيراً إلى أن المعارك تدور اليوم في منطقة لا تتعدّى الثلاثة كيلومترات، بمحاذاة الشريط الحدودي.ويمكن الحديث عن تحولات جذرية في البنية الفكرية ــــ العقائدية لحركة التحرر الفلسطينية، إذ شهدت هذه الحركة تيارات قومية ويسارية ووطنية في بدايتها. لكن في منتصف الثمانينيات، ومنذ الانتفاضة الأولى، بدأت تشهد هذه الحركة تيارات جذرية إسلامية على غرار حركة المقاومة الإسلامية «حماس» والجهاد الإسلامي.وقد تحدث الأمين العام الراحل للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، الدكتور جورج حبش، عن أن «انطلاقة العمل الفلسطيني المسلّح، كانت بمثابة ولادة جديدة للفلسطينيين بعد عقدين على نكبة فلسطين في عام 1948». وتطرّق إلى الأسباب التي عطّلت مسار التحرير بقوله «لا بد لنا من أن نلاحظ شبكة العلاقات المعقّدة التي أحاطت ولا تزال بالقضية الفلسطينية على المستويات المحلّية والإقليمية والعربية والدولية، وهناك من دون شك أسباب موضوعية وأخرى ذاتية حالت دون وصولنا إلى هدف التحرير، ولا سيما مع تغيّر موازين القوى الإقليمية والدولية التي لم تصب في مصلحتنا كحركة تحرر وطني وقومي. فالتجارب الوحدوية فشلت، وبالتالي لم يتحقق شعارنا: الوحدة طريق تحرير فلسطين. بل أدى ذلك إلى انهيار الأنظمة العربية الوطنية وتراجعها.. كذلك كان انهيار الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية خسارة لحلفائنا على الصعيد العالمي، مما جعل الباب مفتوحاً أمام هيمنة القطب الواحد للولايات المتحدة».


------


فصائل المقاومة والانشقاقات
بدأت حركة المقاومة الفلسطينية في عام 1957، بتأسيس النواة الأولى لجيش التحرير الوطني الفلسطيني في العراق، واتخذت من معسكر الرشيد في بغداد مقراً لتدريبه وتسليحه.وكانت هذه القوة هي الجناح العسكري لحركة التحرير الوطني الفلسطيني «فتح»، التي أعلن عن تأسيسها في 31/12/1964 باسم قوات «العاصفة».لكن الحركة تعرّضت لانشقاقات عديدة، ولا سيما أن الأنظمة العربية كانت تلعب على التناقضات داخل الساحة الوطنية الفلسطينية. انشقاقات كان أبرزها في عام 1974، بقيادة مدير مكتب الحركة لدى بغداد، صبري البنا «أبو نضال»، الذي أسّس «حركة فتح ــــ المجلس الثوري».وحين اختارت «فتح»، بعد خروجها من لبنان في عام 1982، إعادة العلاقات مع كل من مصر والأردن، لقيت معارضة سورية وليبية شديدة دفعت أحد مسؤولي الحركة في البقاع والمقرّب من سوريا، سعيد مراغة «أبو موسى»، إلى قيادة انشقاق في عام 1983، تحت شعار «تصحيح مسار الثورة». أمّا الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين، التي كانت أحد تجليّات حركة القوميين العرب، فقد تأسست مع تشكيلات نضالية أخرى، بقيادة الدكتور جورج حبش، في 11/12/1967. لكن مسيرة هذا التشكيل تعثّرت نتيجة خلافات سياسية في وجهات النظر، فانسحبت جبهة التحرير الفلسطينية في تشرين الأول عام 1968 وشكلت الجبهة «الشعبية لتحرير فلسطين ــــ القيادة العامة».وفي سنة 1969، قاد نايف حواتمة، انشقاقاً آخر عن الجبهة الشعبية، وقام بتأسيس «الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين»، ثالث أكبر فصيل في منظمة التحرير الفلسطينية.ومن خارج إطار منظمة التحرير برزت قوة سياسية وعسكرية تحت مسمّى حركة المقاومة الفلسطينية «حماس». أعلن عن تأسيسها الشيخ الشهيد أحمد ياسين مع عدد من كوادر وكبار قادة جماعة الإخوان المسلمين العاملين في الساحة الفلسطينية. وذلك في العام 1987 إبان الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987-1993)، حملت طابعاً اسلامياً على نقيض ما عرفته الفصائل الفلسطينية التقليدية. وكان هذه القوة هي التي سيطرت بعد 20 عاماً على قطاع غزة.وكانت حركة «الجهاد الاسلامي» سبّاقة على صعيد الحركات الاسلامية في فلسطين، اذ انها رفضت سياسة «الاخوان» في استهلاك الوقت بالتثقيف السياسي والتأهيل التربوي، ودخلت غمار العمل المقاوم منذ العام 1980.وهناك أحزاب وفصائل أخرى مقاومة، شهدتها الساحة الفلسطينية منها:- حزب الشعب الفلسطيني: وهو حزب اشتراكي يشكل امتداداً للحزب الشيوعي الفلسطيني السابق. تأسس عام 1982.- جبهة النضال الشعبي الفلسطيني، تنظيم يساري ينتمي إلى منظمة التحرير الفلسطينية، تأسس سنة 1967.- جبهة التحرير الفلسطينية، تنظيم فلسطيني أسس سنة 1977 اثر انشقاق أبو العباس وطلعت يعقوب عن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة.- الجبهة العربية الفلسطينية: تنظيم فلسطيني قومي تأسس سنة 1993 إثر حدوث انشقاق في جبهة التحرير العربية.

11‏/6‏/2008

سمهون يحارب إمبرياليّة اليوم بمقالات الستّينات


كتابات مختارة تخدم الشخصانيّة أم بحث منهجي؟
معمر عطوي
من السهل أن نكتب عن الإمبريالية ونقذفها بأقذع الشتائم ونستشرف سقوطها السريع بناءً على ظروف موضوعيّة وذاتيّة. غير أن بحثاً كهذا يتطلّب شحذ العدة الكاملة من أجل صناعة أفكار ممنهجة وسياق واضح للمعالجة.هذا ما لا ينطبق على كتاب «أعلى مراحل الإمبريالية» للكاتب الصحافي رفيق سمهون، والصادر عن دار عشتروت للنشر في بيروت، إذ إنه اختار عنواناً فضفاضاً لكتاب هو عبارة عن تجميع مقالات مختارة كتبها سمهون خلال مراحل نضاله الطويل في صفوف الحزب الشيوعي اللبناني.ممّا لا شكّ فيه، أنّ الكتاب الذي تضمّن 45 مقالاً وملحقات، كتاب غنيّ بمعلوماته، قويّ بسبك عبارته، متقدّم لجهة طرحه إشكاليات عربية في الفضاء الاشتراكي العالمي، من خلال ما كتبه على صفحات مجلات عالمية مثل «مجلة قضايا السلم والاشتراكية» التي كانت تصدر في براغ بـ43 لغة من لغات العالم وتضم 70 حزباً شيوعيّاً.«أعلى مراحل الإمبرياليّة» عنوان جميل وجذاّب لمن يلاحق تطورات حركة الإمبرياليّة وتمدّدها «الكوني». غير أن هذا العنوان لا يمكن اختزاله بمجموعة مقالات تعبّر عن مراحل معيّنة مضت وتقرأ في أحداث قد لا تتشابه مع ما هو سائد اليوم.الأحرى بالكاتب، وهو مفكّر سياسي شيوعي معروف في الوسط اللبناني ــ العربي وربما العالمي، أن يتخذ عنواناً أقرب الى طبيعة المضمون مثل «مقالات مختارة». لأن العنوان الذي استخدمه الكاتب، يستحق الاهتمام بما يؤدي الى إخراج بحث منهجيّ ــ علمي يطرح إشكاليات الإمبريالية وظروف انغراسها في المجتمعات السياسية، والدور الاقتصادي في ترويج وتحقيق هذه الرؤية المهيمنة. بمعنى أن الحديث عن الإمبرياليّة يتطلب أطروحة متكاملة سياسية اقتصادية فلسفية اجتماعية، لا مجموعة مقالات بعضها إن لم يكن أكثرها قد لا يصبُّ في خدمة العنوان. وربما كان أفضل للكاتب لو اختار مقتطفات من مقالاته لخدمة هذا البحث لا عرض المقالات كما هي.بأيّ حال، الكتاب الغني بعرض المراحل السياسية التي مرّ بها لبنان والعالم، والأهم من ذلك أن كاتبها هو أحد صانعي المشهد السياسي اللبناني: هو الصحافي الذي عمل في جريدة «الأخبار» حين كانت متحدّثة باسم الحزب الشيوعي في الخمسينات، وهو القيادي الشيوعي الذي عمل رئيساً لاتحاد الطلاب عام 1954، ثم أصبح عضواً في الهيئة القيادية لمنظّمة بيروت، حيث قاد العديد من الإضرابات والتظاهرات المطلبية والوطنية وسجن ستّ مرات بين أعوام 1953 ــ1960.يتناول سمهون في كتابه قضايا عديدة تتحدّث عن «لبنان بين المطرقة الإسرائيلية والسندان الأميركي والعدوان الأطلسي عليه وعلى المنطقة. ويستغرق قليلاً في إشكالية الأيديولوجيا التي تحاول الإمبريالية فرضها على العالم لزرع فكرة معاداة الشيوعيّة.ويقول في هذا السياق إنّ الأفكار التي يدعو إليها أنصار «عودة الأيديولوجيا» الليبراليون لا تخرج عن إطار النظرة البورجوازية للعالم ولا تنفي الملكيّة الخاصّة، إنما تنمو في تربة الرأسمالية، مستشهداً هنا بمقولة للينين الذي يرى أن المحاولات المتنوعة التي يبذلها الليبراليون الجدد لخلق أيديولوجيات جديدة «ليست سوى أوهام ودخان أيديولوجي».ثمة عناوين عديدة تستحق التوقّف عندها في كتاب سمهون، وخصوصاً إذا ما استحضر القارئ المرحلة التي كُتبت فيها هذه العناوين، والظروف الموضوعيّة التي كانت تصنع الأحداث آنذاك، على غرار الحديث عن «الريغانية»، أو من خلال استخدامه أدبيّات السبعينيات والثمانينيات حين كانت الحركة الوطنيّة في أوج تألّقها.لعلّ الهفوة الأخرى التي وقع فيها الكاتب هي تخصيص القسم الثالث من الكتاب لعرض مقتطفات من كتابه السابق «في نقد التجربة الاقتصادية المعاصرة». وفي هذا الضمّ ما يشير إلى الاهتمام بالكمّ على حساب النوع، وعلى التصرّف بشخصانيّة على حساب الموضوع. وهذا يعيدنا إلى الرؤية المنهجيّة التي يفتقر إليها الكتاب، رغم ما قدّمه الكاتب من أفكار نقدية مهمّة.
العنوان الأصلي أعلى مراحل الإمبرياليّة
الكاتبرفيق سمهون
الناشرعشتروت
عدد الاربعاء ١١ حزيران ٢٠٠٨

10‏/6‏/2008

عقدة «الائتلاف الصربيّ» وطيف ميلوسوفيتش


معمر عطوي
لم يكن الرئيس الصربي، بوريس تاديتش، مخطئاً حين أعلن في الثالث عشر من أيار الماضي، غداة الانتخابات البرلمانية المبكرة، أن المفاوضات بشأن تأليف الحكومة المقبلة «ستكون شاقّة».لقد واجه تأليف الحكومة الوطنيّة العتيدة، ولا يزال، عقبات كثيرة، على غرار ما يجري في لبنان، على حد وصف عضو البرلمان الصربي المُنحَلّ، أمجد ميقاتي.فقد بلغت المشكلة ذروتها بين الطرفين المتنازعين في الأشهر الأولى من العام الجاري، حين انهار الائتلاف الحاكم الذي قاده الرئيس بوريس تاديتش والحزب الديموقراطي الصربي بزعامة رئيس الوزراء السابق، فويسلاف كوستونيتشا، ما دفع تاديتش في 13 آذار إلى حلّ البرلمان وإعلان إجراء انتخابات مبكرة في 11 أيار. أما سبب هذه المشكلة، فهو في جوهره، خلاف على العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، بعدما اعترفت معظم دوله باستقلال كوسوفو.يصنّف ميقاتي، الذي يعمل مستشاراً لرئيس الحزب الراديكالي القومي، التيارات المتنازعة على المسرح السياسي بأنها ذات توجهين واضحين، الأول وطني ـــــ قومي يرفض التبعيّة للغرب، والآخر موالٍ للغرب ويعمل وفق التوجهّات الأميركية. ويقول «هناك التحالف الوطني ويضم الحزب الراديكالي (78 مقعداً) بقيادة تويسلاف نيكوليتش والحزب الديموقراطي الصربي (30 مقعداً). وفي المقابل، هناك القوى الديموقراطية المواليّة للغرب، التي تضم مجموعة من الأحزاب بقيادة الحزب الديموقراطي» الذي يقوده الرئيس تاديتش (103 مقاعد)، فيما يتعرّض الحزب الاشتراكي الصربي (الرئيس السابق سلوبودان ميلوسوفيتش) لضغوط من أجل ترك حلفائه التقليديين والانضمام إلى الحلف الموالي للغرب.وبحسب المسؤول الصربي ذي الجذور الفلسطينية، فإن «القوى الديموقراطية» لم تحقق النعيم المنشود والوعود المتعلقة بتحسين الشروط الاقتصادية والمعيشية، والذي صاحب مرحلة تقسيم يوغوسلافيا؛ فالبطالة وصلت إلى أعلى مراحلها، إذ بلغ عدد العاطلين عن العمل مليون شخص. كما أن الخصخصة التي جرت لم تخدم المصلحة العامة، و«عُدّت خصخصة لصوصية بيعت خلالها مؤسسات اقتصادية مهمة بأثمان بخسة في مقابل عمولات ذاتية».ويرى ميقاتي أن صربيا «لم تستطع أن تحافظ على كيانها المتّحد والمستقّل رغم وعود الغرب بأن كل القضايا السيادية ستُحل ديموقراطيّاً إذا ما تمّت إزالة ميلوسوفيتش». ما جرى هو أن الجبل الأسود فُصل عن يوغوسلافيا، وبدأت مرحلة تفتيت صربيا مع استقلال كوسوفو، وبالتالي انتهت يوغوسلافيا إلى الأبد.ويضيف ميقاتي إن إعلان استقلال كوسوفو، تمّ من خارج إطار مجلس الأمن والقانون الدولي، وجرى تصعيد الشعور الانفصالي لدى مقاطعة فيفودينا. كل ذلك بسبب ما تتمتع به هذه المنطقة من ثروات طبيعية وأراضٍ زراعية من أخصب الأراضي الأوروبية. ويقول «عوامل عديدة حملت كوستونيتشا، الذي صدّق وعود أميركا في البداية، على ترك تحالف القوى الموالية للغرب فانقلب على حلفائه الغربيين». ويتابع «لقد شعر الرأي العام بدوس كراماته القوميّة، فجرى تدمير مقوّماته الاقتصاديّة وأصبح عمليّاً تابعاً ذيلياً للقوى الغربيّة، حيث وصلت الديون الخارجيّة الى أكثر من 30 مليار دولار، إضافةً إلى عجز تجاري يُعدّ ديوناً مستترة، بلغ 20 مليار دولار».هذا الواقع المزري أدى أيضاً إلى أن يستعيد الحزب الراديكالي موقعه في الجسم الانتخابي الذي فقده عام 2000، حيث كان يشارك في حكومة وحدة وطنية بقيادة ميلوسوفيتش إبّان «العدوان الأطلسي على يوغوسلافيا».ومنذ عام 2004 حتى الآن استطاع الحزب أن يكون الأقوى في برلمان صربيا. لكن القوى الغربيّة منعت تأليفه ائتلافاً يقود به الحكومة بكل الوسائل. لذلك يشير المسؤول الصربي إلى أن الحزب الراديكالي، عرض على كوستونيتشا بعد الانتخابات الأولى تأليف حكومة مشتركة وبعدما وافق جرت ضغوط قويّة عليه لمنعه، بينما رفض الحزب الراديكالي إشراك الحزب الديموقراطي لأنه مسؤول عما جرى.الحزب الراديكالي الذي حصل في الانتخابات الأخيرة على أعلى نسبة من المقاعد (78 مقعداً من 250)، لا يزال غير قادر على تأليف حكومة منفرداً لأنه لم يستطع أن يُكوّن غالبية. لهذا هناك اتفاق مبدئي مع حزب كوستونيتشا (الديموقراطي الصربي) على إنشاء ائتلاف يضم إليه الحزب الاشتراكي الصربي. لكن ميقاتي يشير إلى «ضغوط رهيبة على الحزب الاشتراكي من الغرب من أجل أن ينضمّ إلى الائتلاف الذي يقوده الحزب الديموقراطي ويتخلّى عن حلفائه الطبيعيين (الحزب الديموقراطي الصربي والحزب الراديكالي)». لذا فإن الائتلاف المقبل ينتظر موقف الحزب الاشتراكي، الذي يعدّ «بيضة القبّان».وبشأن النقاط الخلافية، يقول المسؤول الراديكالي إنها تترّكز على 3 نقاط يؤمن بها حزبه:1- ربط الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي بتراجع الاتحاد عن الاعتراف باستقلال كوسوفو والاعتراف بأنها جزء لا يتجزأ من صربيا.2- ضرورة انفتاح صربيا في علاقاتها وتعاملاتها مع الشرق والغرب والشمال والجنوب، حيث إن الحكومات المتتالية بعد عام 2000 أعطت كل الأولويات الاقتصاديّة والعسكريّة والثقافيّة في العلاقة مع أميركا ودول الاتحاد الأوروبي وأهملت العلاقات الطيبة مع دول مهمّة مثل روسيا والصين والهند. وتحالفات إقليمية مع الدول العربية ودول أميركا اللاتينية.3- قضيّة مكافحة الفساد.
عدد الأخبار:١٠ حزيران ٢٠٠٨

6‏/6‏/2008

الخرطوم: لا مصلحة للجنوبيّين بعودة الحرب


«مؤسّسة الرئاسة صمّام أمان» يمنع انفجار الوضع في أبيي
معمر عطوي
طرحت الأحداث التي شهدتها منطقة أبيي السودانية في الأسابيع الأخيرة، مشكلة جديدة في خطة تطبيق اتّفاق السلام الموقّع بين الحكومة والحركة الشعبية لتحرير السودان في عام 2005، وبات هذا الاتفاق على المحكّ بانتظار استفتاء يُحدّد تبعيّة منطقة العموديات الشمالية، التي تُعَدُّ أساس المشكلة.وفي الحقيقة، أن منطقة أبيي ليست هي موقع النزاع الفعلي، بل منطقة عموديات، وهي واقعة في الشمال وفق تقسيم عام 1905. هذا ما أوضحه لـ«الأخبار» أمس، مستشار الرئيس السوداني، عبد الله علي مسار، الذي يزور بيروت، والذي حدَّد أساس الخلاف بالنزاع على التبعيّة: «هل منطقة عموديات شمالية أم جنوبية تتبع لأبيي؟».سبب الخلاف برأي مسار هو «أطماع الدول العظمى في إنتاج البترول والاستفادة من هذه المنطقة لضمّها إلى جنوب السودان». لذلك يرى أن الوفد الأميركي الذي يجري مفاوضات مع الخرطوم من أجل تطبيع العلاقات الأميركية ـــــ السودانيّة، قد أوقف نشاطه «بناءً على تعليمات من واشنطن، على خلفية أحداث أبيي»، مشيراً إلى أن رفض الخرطوم لعرض الوفد الأميركي وساطته بين الشمال والجنوب، دفع الأميركيين لإيقاف المحادثات. محادثات كان قد اتُّفق عليها في روما قبل أسابيع، وترمي إلى تطبيع العلاقات بين السودان والولايات المتحدة، ورفع اسم السودان عن لائحة الدول الداعمة للإرهاب، وتعزيز التعاون الاقتصادي بين البلدين.أمّا رفض الخرطوم لهذه الوساطة، فيشير المستشار الرئاسي السوداني إلى ان الخرطوم تعتزم حلّ مشاكلها الداخلية ذاتيّاً من دون أي تدخل أجنبي. ولعلّ «أكثر النقاط حساسية في تناول قضية أبيي»، بحسب المسؤول السوداني، أن عدداً كبيراً من أبناء المنطقة، هم قادة في الحركة الشعبية الجنوبية التي خاضت معارك طويلة مع الجيش السوداني خلال سنوات الحرب بين الشمال والجنوب. وينتمي هؤلاء إلى قبيلة الدينكا قوك، ويتفاوضون باسمها، في مقابل حضور كبير لقبائل عربية (المسيرية والرزيقات)، التي تتحالف تاريخياً مع الحكومات السودانية المتعاقبة. فالحركة الشعبية ترى أن أبيي كانت تابعة لمديرية بحر الغزال في الجنوب، ولكن الحاكم العام البريطاني ضمّها إلى مديرية كردفان في الشمال، بقرار إداري في عام 1905.ويوضح مسار أن ما عزّز النزاع في الفترة الأخيرة، هو استئثار الغرب، وفي مقدمته الولايات المتحدة، بحل الخلاف على طريقته. إذ إن المفروض هو تأليف لجنة خبراء تضم 15 خبيراً: 5 منهم من قبيلة الدينكا و5 من قبيلة المسيرية و5 خبراء دوليين. لكن الخبراء الدوليين اتخذوا قراراً منفردين، من دون مشاركة ممثّلي القبيلتين، بتحديد تبعية العموديات إلى أبيي، وفق تقسيم عام 1956. ووصف مسار هذا القرار بأنه «تجاوزٌ للحدود».كيف يمكن حلّ هذه المشكلة، وهل من الممكن أن تعيد تفجير النزاع عسكرياً بين الشمال والجنوب؟ يجيب مسار بأن «المشكلة الآن أمام استحقاقين: الأول يتمثل بالاستفتاء المقرَّر إجراؤه في عام 2011، الذي تتحدَّد بموجبه تبعيّة المنطقة. والثاني هو مسألة التحكيم الدولّي المرتقبة.وما بين الاستحقاقين يكمن الحلّ كما هو مطروح، «تأليف إدارة مشتركة بين المؤتمر الوطني الحاكم في الخرطوم والحركة الشعبية في الجنوب، من أجل إدارة المنطقة».وفي ما يتعلق بإمكان عودة شبح الحرب ليخيّم على المنطقة، يرى مسار أنه رغم إصرار الحركة الشعبية على إعادة رسم حدود منطقة أبيي، لكن «الجنوبيين ليس لهم مصلحة في أي نزاع مسلح».أمّا ضمانة هذه الفرضيّة فيحددها مسار بالعلاقة القويّة داخل مؤسسة الرئاسة؛ يقول إن الرئاسة المؤلفة من الرئيس عمر البشير ونائبيه الجنوبي والشمالي تمثّل «صمام أمان للنزاع».مسار، الذي يرأس «حزب الأمة ـــــ القيادة الجماعية ـــــ الأمانة العامة» والمنشق عن حزب الصادق المهدي، يرفد كلامه على هذه الضمانة بالإشارة إلى أهمية البعد القبائلي في ذلك، لانتماء نائب الرئيس الجنوبي، جون سلفا كير، إلى قبيلة الدينكا، القبيلة الأكبر في الجنوب، حيث يتمتع بشعبية كبيرة، إلى جانب نفوذه الواسع داخل الحركة الشعبية، وهو أحد أهم مؤسّسيها، وكان مسؤولاً عسكرياً واستخبارياً فيها. انطلاقاً من هذا المعطى، يستنتج المستشار السوداني «أن المؤسسة الحاكمة هي القابضة على الأمور».وفي ما يتعلّق بحركة العدالة والمساواة، التي شنّت الشهر الماضي هجوماً عسكرياً على أم درمان مستهدفة العاصمة الخرطوم، يوضح مسار أن هذه الحركة مدعومة من تشاد، وهناك علاقة نسب بين الرئيس التشادي إدريس ديبي وبعض أقطاب هذه الحركة. وجُلّ عناصرها من مخيمات اللاجئين الدارفوريين. كما أن معظم قادة العدل والمساواة، من تلاميذ زعيم المؤتمر الشعبي المعارض، حسن الترابي والمعجبين بأفكاره التغييرية. غير أن هذه الحركة التي بدأت نشاطها بغزارة «لم تعد قادرة على فعل شيء»،وذلك للأسباب التالية: «لقد فقدت الحركة كل عناصرها المقاتلة (بين قتيل وجريح وأسير)، وفقدت كل قوّتها العسكرية. كما فقدت كل المعلومات الاستخبارية التي كانت بحوزة كوادر أصبحوا في أيدي الاستخبارات السودانية. بمعنى أنها فقدت ركيزتها الفنية والعسكرية والأمنية».يوافق مستشار الرئيس السوداني على توصيف هذه الحركة بأنها «جناح مُسلَّح لحزب الترابي، لكن بشكل سرّي، لأنها تتبرأ من أي علاقة بالمفكر الإسلامي السوداني. رغم أن المؤتمر الشعبي هو الحزب السوداني الوحيد الذي لم يدن الهجوم على أم درمان».
عدد الأخبار: ٦ حزيران ٢٠٠٨

4‏/6‏/2008

منعطفات إشكاليّة لم تسلم من التكرار والاجترار


إهرنبرغ يتنقّل بين ذهنيّة العرض وروحيّة المقاربة
معمر عطوي

يعكس كتاب «المجتمع المدني ــ التاريخ النقدي للفكرة» (ترجمة علي حاكم صالح وحسن ناظم ــ المنظمة العربية للترجمة)، اهتمامات كاتبه جون إهرنبرغ، كناشط في الحقوق المدنية ومناهضة الحروب. الرجل يعطي رؤية نقدية شاملة لفكرة المجتمع المدني منذ الفلسفة اليونانية مع أفلاطون وأرسطو إلى مراحل سيطرة الرأسمالية على اقتصاد السوق الذي أسهم في «تسليع الميدان العام».لقد أراد إهنبرغ، أستاذ العلوم السياسية في جامعة لونغ آيلند الأميركية، أن يعالج مفهوم المجتمع المدني، معالجة شاملة، فوقع في التكرار أحياناً وفي اجترار العبارات، واسترسل أحياناً أخرى في الاستطراد لدرجة تضييع الفكرة الأساسية. استطراد بدا واضحاً في مناقشاته لفلاسفة كبار مثل عمانوئيل كانْت، وفريدريش هيغل عن مفهوم المجتمع المدني، باذلاً في هذا المضمار جهداً مضاعفاً من أجل التوصُّل إلى عصارة أفكار تصبُّ في تحقيق هدفه من وضع هذا الكتاب ــ الأطروحة. إذ إن فكرة المجتمع المدني بحدّ ذاتها كانت مطروحة منذ العصور القديمة، وفق معايير مختلفة عن السائد اليوم. وربما كانت ممارسة أكثر منها رؤية فلسفية، لكنها قد تكون تبلورت مع تقسيم أنظمة الحكم وطبقات المجتمع في فلسفتي أفلاطون وأرسطو وما جاء بعدهما.ممّا لا شك فيه أن الدراسة مستفيضة جداً وتستدعي الوقوف عند الكثير من منعطفاتها الإشكالية التي أراد من خلالها الكاتب الانتقال من ذهنية العرض إلى روحية المقاربة بين الرؤى، والمقارنة بين المتناقضات. لذلك استطاع في كتاب يتألف من 470 صفحة من القطع الوسط أن يعطي الموضوع حقّه.لكن كاتبنا المتخصّص في الماركسية والفكر الديموقراطي، وقع في إشكالية منهجية ــ إذا صحّ التعبير ــ من خلال إقحامه الفكرة المسيحية عن المجتمع المدني كرؤية دينية، وإن كان توما الاكويني وأوغسطين أقرب إلى الفلاسفة من الإكليروس.في كتابه «مدينة الله»، يستنتج القديس أوغسطين أن «الخطيئة تمخّضت عن تراتبية في التاريخ الإنساني، وخلقت، في الوقت نفسه، إمكان أن يكون لمؤسسات المجتمع المدني تأثير إصلاحي». انطلاقاً من هذا المفهوم، رأى إهرنبرغ أن أوغسطين «حوّل المجتمع المدني الكلاسيكي ــ الذي قام لدى الإغريق والرومان مقام حلبة للنقاش العام والفعل الأخلاقي ــ إلى آلية قسرية تحقّق غايات الله عن طريق إنزال العقاب بالفئة الضالّة والتخفيف من وطأة الخطيئة».لم يجانب الكاتب الصواب حين تطرّق إلى مسائل تتعلّق بالجماعة المسيحية من خلال حديثه عن الإيمان والدولة والانشقاقات التي حصلت في الكنيسة، والتي «فرّخت» نظريات عديدة ومتباينة عن المجتمع المدني. لكنه وقع في إشكاليّة منهجية لجهة معالجة موضوع فلسفي ــ سياسي من منظور لاهوتي في سياق فلسفي ــ اجتماعي.بمعنى أنّ التصنيف المنهجي للبحث ينبغي أن يعطي الحق لمناقشة نظريات دينية أخرى كالإسلام واليهودية والهندوسية والبوذية ــ على سبيل المثال ــ عندها يمكن الباحث أن يتجنّب إشكالية الدمج بين الفلسفة واللاهوت فيعطي قسماً من كتابه للرؤى التيولوجية، ويترك الأقسام الأخرى للحديث عن المجتمع المدني في ضوء المدارس الفكرية ــ الفلسفية. ثم ينتقل بعد ذلك إلى مناقشة المجتمع المدني في ضوء أنظمة حديثة مثل الشيوعية والرأسمالية وغيرها من أشكال الحكم السائدة.يتألف الكتاب التي تولّى «مركز دراسات الوحدة العربية» توزيعه، من ثلاثة أقسام وتسعة فصول. في القسم الأول تحت عنوان «أصول المجتمع المدني»، يناقش إهرنبرغ «المجتمع المدني والموروث الكلاسيكي» انطلاقاً من رؤية أفلاطون، في محاورة كتابه الشهير «الجمهورية»، الذي يرى فيه أن الناس يعيشون في ميادين مترابطة، وأن لكل ميدان منطقه التنظيمي الجوهري الخاص.وهنا يرى الكاتب أن أفلاطون أراد بلوغ فهم شامل للكل؛ «يتألف المجتمع المدني مثل جسم الإنسان أو طاقم السفينة، من عناصر مختلفة لها مهارات مختلفة وتؤدّي مهمّات مختلفة. فهو يستند إلى الحاجة الماديّة للكائن البشري إلى الطعام، والمسكن والملبس». ويستنتج الكاتب هنا أن «تقسيم العمل القائم على الاستعدادات الطبيعية يقع في قلب نظريّة أفلاطون عن العدالة، والسياسة، والمجتمع المدني».لكن أرسطو الذي يشاطر أفلاطون فهمه أن الصلات الإنسانية تتجذّر في الحاجة المادية، وأن تقسيم العمل يقع في صميم المجتمع المدني، يذهب أبعد من معلمه باعتباره «أن المنهج الغائي لدى أرسطو أدّى به الى اعتبار أن المدينة هي الرابطة أو الاجتماع الأكثر شمولاً وسيادة على الروابط الإنسانيّة كلّها، لأنها تهدف إلى أن تشمل الغايات الإنسانية كلها وتسودها».في الفصل الثاني المتعلق بـ «المجتمع المدني والجماعة المسيحية»، يقول الكاتب إن «المسيحية في بواكيرها لا تبالي نسبياً بقضايا الدولة، معتبرة إياها شؤوناً عابرة سرعان ما ستزول». ولكن عندما بات واضحاً أن المسيحيين يجب عليهم أن ينتظروا مجيء مملكة الله، اضطرّت السلطات الكنسية إلى التصالح مع العالم. والعملية الطويلة التي توصّلت بها الكنيسة إلى التفاهم مع الإمبراطورية أسفرت عن وضع تبرير للسلطة السياسية القسرية ومجموعة من الموجّهات النافعة لأجل وضع الكنيسة في صميم المجتمع المدني».ويرى إهنبرغ هنا أنّ مذهب «الخطيئة الأصليّة» سيؤّدي بالعديد من آباء الكنيسة إلى أن يستنتجوا أن الدولة كانت عاقبة إلهية بسبب طبيعة السقوط البشري، ولكن بهدي من الكنيسة، يمكن للدولة أن تؤدي دوراً مهماً في التاريخ الكلّي بتصحيح الخطأ البشري.في الفصل الثالث، يتناول الكاتب المجتمع المدني في ضوء الانتقال إلى الحداثة، متحدثاً عن الفضيلة والسلطة والضمير المتحرّر والسيادة والمصلحة. ويُخصّص القسم الثاني من كتابه عن المجتمع المدني والحداثة ليتحدث عن «نشوء الإنسان الاقتصادي» و«المجتمع المدني والدولة» و«المجتمع المدني والتنظيمات الوسيطة».أمّا القسم الثالث، ففيه دراسة مستفيضة عن المجتمع المدني والشيوعية، متحدثاً فيه عن النزعة الشمولية والثورة المحدودة ذاتياً. وينتقل في الفصل الثامن إلى المقلب الآخر ليتحدّث عن المجتمع المدني والرأسماليّة، متناولاً موضوع أسس التعدّدية وتسليع الميدان العام وأحلام التجديد. ويختم بالحديث عن المجتمع المدني والسياسة الديموقراطية.

3‏/6‏/2008

رفسنجاني في السعوديّة: هل ينزع فتائل التفجير؟

معمر عطوي
تحمل زيارة رئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام الإيراني، علي أكبر هاشمي رفسنجاني، إلى السعودية، دلالات عديدة في هذا الوقت الذي تُفرّخ فيه حدّة التوترات بين البلدين معارك مذهبية في أكثر من بلد. وإذا كان عنوان المؤتمر الدولي الذي دُعي إليه رئيس مجلس خبراء القيادة الإيرانية البراغماتي، يصب في هدف الحفاظ على «الوحدة الإسلامية»، إلاّ أن توقيته يأتي في ظرف شديد الحساسية غداة صدور بيان «علمائي» سعودي يُهاجم الشيعة ويُحذِّر من «الانخداع بمزاعم الرافضة»، حسبما أورد البيان الذي وقّعه 22 رجل دين سعودياً أول من أمس.وتبدو محاولات التقارب بين البلدين كأنها عملية التفاف على أطراف متشددة في هذا الجانب أو ذاك، تعمل على تفجير الأزمة. لذلك يأتي حضور رفسنجاني، تلبية لدعوة رسمية وجهها إليه الملك عبد الله، كأنه يبرهن على وجود مساع تحاول لملمة الجراح «المذهبية» التي أنتجتها الأزمة بين الرياض وطهران.وبات واضحاً، من خلال الزيارة تلك وغيرها من الجهود المشتركة، بينها ما حصل في لبنان، أن تضارب المصالح بين العاصمتين، لن يكون سبباً لتفجيرات مذهبية كبيرة قد تنقلب نتائجها على البلدين؛ فرغم أن السعودية وإيران ليستا على قدر كبير من المودّة، إلّا أن خطورة خلافاتهما على الشارع الإسلامي، تترك انعكاسات أكبر من أن يتحملها أي منهما، لذلك يلجأ المسؤولون هنا وهناك إلى محاولة تطويق الأصوات التكفيرية السنيّة التي تصف الشيعة بـ«الرافضة»، (الذين يرفضون خلافة أبو بكر وعمر وعثمان) والأخرى الشيعيّة التي تنتقد المدرسة الوهابية وتصف بعض أهل السنة بـ «النواصب» (لمناصبتهم العداء لأهل بيت النبي).محاولات بدت كأنها إدارة للأزمة وليست لوضع الحلول الناجعة لها. وزيارة رفسنجاني قد تصلح للبحث عن مثل هذه الحلول، ولا سيما أن الرجل اشتهر بمنهجيته المعتدلة وخطابه الوسطي في الوقوف على تماسّ واحد من جميع الأفرقاء على مستوى السياسة الداخلية الإيرانية، كما كان له موقف جريء الشهر الماضي يَصبُّ في إدانة مروجّي الفتن المذهبية وجرائم القتل الجماعي في العراق، معتبراً أن العمليات الانتحارية تمثّل «انحرافاً فكرياً».من المُبكر القول إن زيارة رئيس مجلس الخبراء هذه، ستفتح صفحة جديدة بين إيران والسعودية، بيد أن مثل هذه الزيارات قد تؤجّل أو تنزع فتائل التفجير المذهبية وتحدّ من توسعها. وربما كانت زيارة الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد إلى قطر وحضوره أعمال قمة دول مجلس التعاون الخليجي في الدوحة في الثالث من كانون الأول الماضي، محطة هامة على صعيد تحسين العلاقات السعودية ـــــ الإيرانية، ولا سيما حين دخل نجاد إلى قاعة المؤتمر ممسكاً بيد الملك السعودي عبد الله.لكنّ هذا الحضور التاريخي والزيارتين المتتاليتين السابقتين لنجاد إلى السعودية، لم تفلح في الحد من التوترات، التي تفجّرت أخيراً في لبنان، ما يؤكد فرضية عقم الزيارات والمجاملات الدبلوماسية في حل إشكالية تاريخية عميقة.هذه المشكلة ذات الأساس المذهبي كانت قد تبلورت في النصف الثاني من الثمانينات، بسبب الاشتباكات بين الشرطة السعودية والحجاج الإيرانيين الذين تظاهروا احتجاجاً على الولايات المتحدة، الأمر الذي أدى إلى مقتل أكثر من أربعمئة شخص، وتسبب بقطع العلاقات بين البلدين عام 1988.لكن العلاقات عادت عام 1991، ووصلت إلى ذروتها عام 1997 بعد انتخاب الرئيس الإيراني محمد خاتمي، الذي قام بزيارة إلى السعودية في عام 1999. وكان من نتائج هذه الزيارة توقيع البلدين عام 2000 اتفاقية أمنية للتعاون في مجالات مكافحة الجريمة المنظمة والإرهاب وتهريب المخدرات في طهران، التي استقبلت في هذا العام، للمرة الأولى منذ انتصار الثورة الإسلامية عام 1979، وزير داخلية سعودي هو الأمير نايف.ولا شك أن الاتفاقات الأمنية قد تقلّص من حدة التوتر السياسي بين ايران والسعودية، كذلك مضاعفة التبادل التجاري وتعميق العلاقات الاستثمارية، غير أن كل هذه الخطوات لا تخدم فكرة التقريب بين المذاهب. وقد يكون المزيد من التنسيق الأمني الذي جرى بين مسؤولين سعوديين وايرانيين في الأشهر الماضية، إحدى المحطات المهمّة في تعزيز التقارب ونزع فتائل التفجير.لكن الأهم من ذلك هو عدم وقوع أي من الدولتين في فخّ تحقيق «مجد» السيطرة على المنطقة بدعم دولي. كذلك معالجة الخلاقات العقائدية بطريقة منهجيّة وإبعاد الأجنحة التكفيرية والمتطرفة من الطرفين عن الحلبة.
الاخبار: ٣ حزيران ٢٠٠٨