8‏/10‏/2009

فتاوى جلب المفاسد والفريضة الغائبة

معمر عطوي*
طرح المرجع الديني الإسلامي، السيد محمد حسين فضل الله، في حديث لـ“الأخبار” بداية شهر رمضان الماضي، العديد من المسائل غير المسبوقة في التراث الفقهي الشيعي. مسائل ربما أقلّها، جواز إفطار الصائمين عند مغيب الشمس، حسبما يرى أهل السنّة، بدلاً من الانتظار نحو ربع ساعة من الوقت كما يفعل الشيعة، وقد تكون أهمّها رؤيته لهلال رمضان وموعد بدء الصيام من خلال حسابات فلكية تثبت الوقت الدقيق لميلاد القمر في أول الشهر الهجري وآخره.
والحال أنّ واقع الفتاوى الدينية والتجاذبات القائمة بين المراجع والفقهاء، تُحتّم على أي مراقب أن يرتئي ما هو أفضل للوسط الاجتماعي الذي يعيش فيه، والذي شئنا أم أبينا، بات محكوماً بخلفيات ما ورائية، أسهمت إلى حدّ كبير في تكوين العقل الجمعي، بما يتلاءم مع مرحلة تديّن جارفة، أصبح فيها معيار القول للفقيه والقوانين الإلهية، أكثر منه للقوانين الوضعية المدنية.
من هنا، يصبح موضوع التخفيف من حدة الفتوى على واقع التعايش القائم، ضرورة لا بد منها انطلاقاً من الحقل الديني نفسه. إذ إن مقاصد الشريعة الإسلامية تقوم على فرضية أساسية، تقول بجلب المصالح ودرء المفاسد. وبما أن “الأصل في الأشياء الإباحة»، فإن النص بحد ذاته قد يكون أحياناً، حمّالاً لأوجه مختلفة، بما يسمح بتطوير مساحة الاجتهاد، من ضمن ما يسميها المفكر السيد محمد باقر الصدر “منطقة الفراغ”. انطلاقاً من هذه المنطقة التي لا يمكن تسويتها إلّا من خلال إعمال العقل والتأويل في النص، يمكن رجال الدين أن يصوغوا أحكامهم بما يتناسب مع حكم العقل، وما يحفظ مقصد جلب المصالح للأمة. أمّا إذا أصرّوا على مقولة “لا اجتهاد مع وجود النص”، فعندها توقّع ما لا تُحمد عقباه من مفاسد سيجلبها هؤلاء على مجتمعهم وأمّتهم.
المفارقة، أن كل جماعة دينية سواء من الشيعة أو من السنّة، تزعم أنها تلجأ إلى الاجتهاد واستعمال العقل، وتتغنّى ببعض الفتاوى التي “تسهّل أمور المسلمين”. لكن العيب في الأمر، أن حدود الاجتهاد لا تزال غير واضحة. لعلّ السبب، يكمن في الانتقائية المتّبعة لدى بعض من يتصدّى للفتوى، في اختيار أحكام معيّنة قد لا تكون من الأولويات، وهنا تكمن المفسدة بعينها. انطلاقاً من هذه الفوضى في إطلاق الفتاوى، لا يمكن أن يستقيم وضع الحكم الشرعي بما يضمن تحقيق مصالح المسلمين في “التعاون على البرّ والتقوى”. وقد يزيد الأمر في توسيع الهوة بين المذاهب بما يضمن توظيف رجال السياسة للشحن المذهبي في تحقيق أهدافهم المادية والسلطوية، من خلال دماء الناس وممتلكاتهم.
لذلك، كان العلّامة فضل الله من السبّاقين إلى بلورة أحكام وآراء تُعدّ من خارج الحقل التقليدي، مثل رفضه لروايات موجودة في كتب الشيعة، تتحدث سلباً عن صحابة الرسول محمد. ولو أن علماء المسلمين من السنّة والشيعة، اتّخذوا العقل مصدراً للتشريع بدل القياس، لكانوا جميعاً قد اتّفقوا مع السيد فضل الله، على تحديد بداية الشهر الهجري ونهايته، بدلاً من البقاء في حيرة من أمرهم. إذ يؤثّر هذا الضياع سلباً في حركة تنظيم الأعمال وجداول المواعيد وبعض الاستحقاقات المصيرية التي تحتاج إلى دقة في تحديد وقتها.
أمّا مقولة إن الفقه الشيعي يعتبر العقل أحد أهم مصادر التشريع بدلاً من القياس، كما هو عند أهل السنّة، فهي مقولة غير دقيقة. وليس دقيقاً القول أيضاًً، إن باب الاجتهاد لم يُقفل عند الشيعة. فمقولة إن العقل هو مصدر التشريع، لا يمكن أبداً أن تصمد أمام فتاوى متصلّبة عن “عدم حليّة” الطعام عند المسيحيّين والدروز، وشرعية الذبح، ومصافحة النساء وإجراءات الوضوء والصلاة التي تبطل لمجرد تغيير حركة قد تكون في غاية السخافة. كذلك لم يجتهد معظم فقهاء الشيعة في ضرورة تغيير نمط التعاطي مع الأفراد من الملل الأخرى، على أنهم مشركون أو نجس أو كفّار أو ضالّون. بمعنى أن كل هذه الأكاذيب الدبلوماسية عن التعايش بين الطوائف والتقريب بين المذاهب، ما هي إلّا دبلوماسية رثّة لا تعبّر عن حقيقة النظرة إلى الآخر من منظور الحكم الشرعي، الذي لا يزال يعيش في التقليدية واللاعقلانية.
وهنا قد يصبح القياس والعقل، كمصدرين للتشريع، مجرد تسويغ لحكم لا عقلاني وغير واقعي. أكثر من ذلك، لا وجود أبداً لعمل عقلي إلى جانب روايات وهميّة وخرافيّة، لا تشبه سوى سلسلة شرائط الخيال العلمي والأساطير البابلية.
ولعلّ ما تشهده ساحات الفتاوى من حليّة أنواع عديدة من الزواجات التي تُسلعن المرأة وتجعلها مثل بنت الهوى تمارس الجنس لقاء المال تحت عنوان “المهر”، بعيداً عن أي مشاركة في العواطف والمشاعر، ما هو إلاّ الإجرام بعينه؛ إجرام بحق المرأة كإنسانة لها كرامتها، وإجرام بحق الرجل الذي يجري تحويله إلى حيوان غرائزي، يُشبع حاجاته الجنسية بعنوان شرعي، هو إمّا زواج مسيار، أو زواج بنيّة الطلاق أو “زواج متعة”. وكلمة متعة هنا إهانة بحق المرأة والرجل معاً. إذ يصبح كل طرف بالنسبة إلى الآخر يؤدي وظيفة بيع الهوى ليس إلّا. في السياق نفسه، يندرج زواج المسيار، الذي يجعل المرأة بمثابة محطة جغرافية، يستطيع الرجل إفراغ شهوته فيها بمعزل عن فكرة العائلة واستقرارها وأهمية العلاقة العاطفية في الموضوع. إلى جانب ذلك، وهنا المفارقة في انتقاد بعض السنّة للشيعة على خلفية “الزواج المنقطع”، أن البعض في دول الخليج العربي، يعقدون نوعاً من الزواج “بنيّة الطلاق”. زواج يقوم به بعض الميسورين، من خلال إقامة علاقة عابرة مع فتاة تتمّ شرعنتها بعقد زواج يتبعه بعد فترة وجيزة “طلاق بائن” ودفع المهر. ولا نريد الاسترسال في بعض الفتاوى المثيرة للاشمئزاز حول زواج الأطفال والرُضّع.
حبّذا لو تفرّغ رجال الدين، إلى البحث عن فتاوى تعيد بناء المجتمع على أسس سليمة بدل زرع الشحن والحقد والكره وتحويل الإنسان إلى كائن شهواني. هم يتوقفون عند بعض الروايات الضعيفة أو الكاذبة بمعظمها، فيما ينبغي لهم أن يفتّشوا عن الجوامع المشتركة. أين سيكون الخطأ الشرعي لو أن أهل السنّة أعادوا الاعتبار إلى العلماء والمصلحين من أهل بيت الرسول؟ وأين سيكون الإشكال الشرعي عند الشيعة لو تحدّثوا مع تلامذتهم عن فضائل الصحابة وهي كثيرة، وخصوصاً لدى الخلفاء الراشدين؟ هل سيحاسب الله هؤلاء أم أولئك على سياسة يمكن من خلالها إنصاف جميع من صنعوا التاريخ الاسلامي، وبالتالي التقريب بين الناس؟
لا شك أن رجال الدين هم في موقع من يحاول الاحتفاظ بمريديه ومقلّديه حتى لو أسهم في ترسيخ التخلّف والعمل بمعزل عن فكرة “جلب المصالح ودرء المفاسد”.
أمام هذا الواقع يصبح من العقلانية، التصدّي لفتاوى مثل الامتثال لإشارات السير والحفاظ على البيئة، وعدم إزعاج الجيران حتى بصوت القرآن أو مجالس العزاء. كذلك توعية الناس إلى أهمية عدم توظيف أموالهم في مشاريع اقتصادية غير منتجة وريعية مبنيّة على الربا. فعلم مقاصد الشريعة واضح في أن الحكم يهدف إلى خدمة الإنسان وتجنيبهم الوقوع في التهلكة، وإيجاد التوازن في المجتمع لضمان عدم غلبة فئة على أخرى. لعل الفتوى المنطلقة من حركيّة المجتمع، التي تصبّ في تحقيق أهداف الجماعة ككل، بغضّ النظر عن تعددية هذه الجماعة مذهبياً أو قوميّاً أو عرقيّاً، هي التجسيد المنطقي والعقلي لسياسة جلب المصالح، التي لا يزال الكثير من رجال الدين يجهلون، أو لا يريدون معرفة أين تكمن هذه المصالح للأسف. كثيراً ما تحدّث البعض عن أن “الفريضة الغائبة” هي الجهاد (كتاب لعبد السلام فرج).
وفي الواقع، الفريضة الغائبة اليوم عن الوسط الإسلامي هي الاجتهاد لا الجهاد.
* من أسرة «الأخبار»



عدد الخميس ٨ تشرين الأول ٢٠٠٩

3‏/10‏/2009

إيران وأميركا: الرقص مع الشيطان

معمر عطوي
لم تكن التحوّلات الأخيرة التي شهدتها العلاقات الإيرانية ـــــ الأميركية، هذا الأسبوع، مفاجئة لجهة كسر الجليد القائم بين البلدين منذ عام 1980. فقد سبقت هذه التحولات لقاءات سريّة وعلنيّة ومناورات إعلامية، مهّدت لجعل الرقص مع «الشيطان الأكبر» مُستساغاً.
وربما كانت دعوات الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى الحوار مع طهران، خلال حملته الانتخابية وبعد فوزه بالرئاسة، ورسائل التهنئة المتبادلة بينه وبين نظيره الإيراني محمود أحمدي نجاد والمرشد الأعلى علي خامنئي، محطات هامّة في تقريب وجهات النظر.
غير أن الخطوات الأولى بدأت منذ عهد الرئيس الأسبق، البراغماتي المعتدل علي أكبر هاشمي رفسنجاني، الذي تمرّد على ثوابت الثورة من خلال فضيحة «إيران غيت». منذ تلك الحادثة، قيل الكثير عن براغماتية السياسة الإيرانية، التي تعلن المبدئية في تعاطيها مع إسرائيل «الغدة السرطانية» وأميركا «الشيطان الأكبر»، فيما تقوم بأي خطوات لازمة تجاه «العدو» إذا اقتضت مصالحها ذلك.
وبدأت تتجلّى هذه البراغماتية أكثر في عهد الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي، الذي جرت خلاله أول زيارة لوزير خارجية إيراني (كمال خرازي) لواشنطن، حيث التقى نظيرته الأميركية مادلين أولبرايت في خريف عام 2000.
ثم جاء غزو أفغانستان والعراق، ليكون بمثابة القشة التي قسمت ظهر بعير المبادئ الثورية، ولا سيما أن التعاون الإيراني مع الأميركيين والبريطانيين في مهاجمة هذين البلدين لم يعد خافياً على أحد، وجرى تناوله في العديد من المحافل، على اعتبار أن عدوين لدودين مثل حركة طالبان وصدام حسين أخطر من انتشار جحافل الغزو في الخليج والمنطقة. والمفارقة هنا أن هذه التحولات في الموقف الإيراني طرأت رغم أن الرئيس الأميركي السابق جورج بوش كان قد صنّف إيران في عام 2002، من ضمن «محور الشر»، فيما كانت طهران بعد أشهر قليلة توافق على محادثات بين برلمانيين من البلدين اقترحتها واشنطن.
تبعت هذه الخطوات تصريحات للمرشد الأعلى، قال فيها إن «قطع العلاقات مع أميركا ليس دائماً». تصريحات سبقتها رسالة للرئيس نجاد إلى بوش في عام 2006، يقترح فيها «وسائل جديدة» لتخفيف الاحتقان في العالم. لكن واشنطن أبدت استعدادها للمشاركة في محادثات متعددة الأطراف مع طهران إذا تخلت هذه الأخيرة عن برنامجها النووي.
هذه السياسة من الجانبين، التي كانت دائماً تُغطى بتهديدات متبادلة ومناورات عسكرية بهدف تحسين شروط التفاوض، توصلت في عام 2007 إلى عقد 3 جولات من المفاوضات بين وفدي البلدين بشأن الوضع في العراق برعاية بغداد.
وفي عام 2006، شهدت أروقة أحد الفنادق في شرم الشيخ، على هامش مؤتمر عن العراق، لقاءً بين خبراء أميركيين وإيرانيين وتبادل حديث مقتضب بين وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس ونظيرها الإيراني منوشهر متكي.

وبدا في ما بعد أن اللقاءات العلنيّة بين الأميركيين والإيرانيين، ما هي إلا نتيجة طبيعية للقاءات سريّة، كشفت عنها صحيفة «الإندبندنت» البريطانية، في نيسان 2008. إذ ذكرت أن واشنطن وطهران منخرطتان في مناقشات سرية عبر قناة خلفية على مدى السنوات الخمس السابقة.
الأمر الهام هنا أن أحد المفاوضين أبلغ الصحيفة يومها باقتراح أميركي يقضي بإعطاء إيران فرصة لتخصيب اليورانيوم خارج أراضيها، عن طريق «كونسورتيوم» روسي. اقتراح يبدو أنها وافقت عليه طهران هذا الأسبوع.
وفي السياق عينه، كشف وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر، الذي يُعَدّ من الصقور، أنه أجرى محادثات مع الإيرانيين في وقت لم يحدده، مشيراً إلى أن «المفاوضات تعتمد على التوازن بين الحوافز والعقوبات».
وفي نهاية عام 2007، ظهر واضحاً التباين في المواقف الأميركية، وخصوصاً بين المؤسسة السياسية والمؤسستين العسكرية والأمنية، حين صدر تقرير عن 16 جهازاً استخبارياً أميركياً يعلن أن طهران أوقفت العمل ببرنامج نووي تسلّحي في عام 2003. واللافت في الأمر أن رئيس مجلس خبراء القيادة الإيرانية، رفسنجاني، كان على علم بالتقويم الاستخباري قبل صدوره، حسبما كشف مسؤول إماراتي يومها.
أمّا حصيلة هذه المسيرة الطويلة من علاقات المد والجزر بين البلدين، فقد تُوّجت بسماح أميركا لوزير الخارجية الإيراني بزيارة نادرة لواشنطن الأسبوع الحالي. خطوة سبقها سماح السلطات الإيرانية لسفارة سويسرا التي تدير المصالح الأميركية لدى طهران، بلقاء ثلاثة معتقلين أميركيين دخلوا البلاد عن طريق كردستان العراق بطريقة غير مشروعة.
وعلى ما بدا في اجتماع جنيف، الذي أفسح المجال للقاء بين مندوب إيران سعيد جليلي ونائب وزير الخارجية الأميركية وليم بيرنز، أن طهران قد أسهمت في تسهيل عملية التفاوض بتطبيقها لمطالب الجانب الأميركي، مثل إدراج البرنامج النووي على جدول المحادثات، رغم رفضها لذلك سابقاً، والسماح للمفتشين الدوليين بالوصول إلى مفاعل نووي في قم، والتزامهم بجدول زمني للقاءات جديدة.
حجر الرحى هنا موافقة طهران على تخصيب اليورانيوم في روسيا، الموقف الذي أعفى الحليف في موسكو من إحراج الموافقة على عقوبات مشددة، وطمأن العدو في واشنطن إلى أن التخصيب أصبح في منتهى الشفافية.



الأخبار ٣ تشرين الأول ٢٠٠٩