17‏/5‏/2011

ما جدوى المقاومة إن لم يكن هدفها الحريّة؟


معمر عطوي

خلقت الثورات العربيّة الراهنة إشكاليات على صعيد مفاهيم تتعلق بالقيم السياسيّة والإنسانية، مثل مصطلحات، مقاومة وممانعة وثورة وانتفاضة وما إلى ذلك من عناوين لا بد أن تصبّ جميعها في النهاية لمصلحة تحقيق الحريّة والكرامة والنزاهة والديموقراطية واحترام التعددية في الواقع الاجتماعي والسياسي.

الإشكاليات بدت جد صارخة في طريقة التعامل مع هذه المفاهيم من قبل جهات كانت وحتى وقت قريب، تُعتبر أسّ التغيير في العالم العربي المُنهك بالقمع والفساد والتخلف والديكتاتوريات المُعمّرة. بهذا المعنى يمكن النظر الى دول تسمي نفسها "ممانعة" بمنظار الدول المنفصمة أو ذات الإزدواجية في الحكم.

قضايا عديدة شهدتها الساحة العربيّة (ولا أقول ساحات حتى لا أقع في خطأ التصنيف الطائفي أو المذهبي أو القطري)، أعادت الأمور إلى نصابها فتجلّت سوءة كل طرف بما يضمر للآخر والأهم من ذلك، طبيعة تعاطيه مع مفاهيم أتحفنا بها على مر عقود طويلة، وظهور هوة واضحة بين هذه المفاهيم وشروط إمكان تحققها.

جوهر الكلام يتجلى من خلال هذه الإزدواجية في المعايير والتي كانت تهمة يطلقها "الممانعون" دائماً على الدول الكبرى، حتى وقعوا بها شر وقوع، إذ كيف تستطيع دولة مثل سوريا ترفع عنوان دعم المقاومة في كل من فلسطين ولبنان والعراق، أن تقمع شعبها بهذه الطريقة الدموية، بعدما صادرت حقوقه في التعبير وحرياته السياسية والإعلامية وكرامته تحت ذريعة قانون طوارىء شلّ كل حراك سياسي وثقافي بعنوان التحضير للمعركة الكبرى، وبعدما احتضنت رجال فاسدين في الحكم او مقربين منه، سرقوا ثروات الشعب والبلد باسم الاشتراكية.

بعد أربعين عاماً من التقشف القسري، وجد هذا المواطن أن لا معركة مصيرية حصلت ولا تقدّم على المستويات الأخرى مثل التعليم والتنمية والديموقراطية والحرية والطبابة قد تم انجازه، حتى بات يصح المثل على حكوماتنا بأنها "لا في العير ولا في النفير".

وما ينطبق على سوريا ينطبق على إيران والسودان وليبيا وحتى اليمن وقطر (التي دخلت نادي الدول الممانعة أخيراً من دون أن تترك معسكر الاعتدال). دول يزايد مسؤولوها بطريقة وقحة في الدفاع عن المقاومة ومقارعة ظلم "الاستكبار" و"الصهيونية"، ويتحدثون عن مؤامرات تُحاك في عواصم هم أقرب اليها من شعوبهم. وفي الوقت نفسه يمارسون الظلم بحق شعوبهم المقموعة بعنوان "ذريعة التهديد الخارجي" أو الحفاظ على الاستقرار الداخلي.

وكما تقول القاعدة المنطقية "ما ينطبق على الكل ينطبق على الجزء"، تأتي بيانات حركات المقاومة في لبنان وفلسطين، لتصب النار على جرح الشعب العربي، بمساندتها لأنظمة قمعية، تحت حجة أن سقوط هذه الأنظمة يهدّد استقرار المنطقة ويتيح المجال أمام العدو ليخترق ساحتنا. وكأن هذه الساحات التي قُتل فيها قادة مقاومون كبار، لم تكن عُرضة للاختراق، ناهيك بالغارات الأميركية والاسرائيلية التي طالت مناطق أمنية حساسة فيها، وكان الجواب فقط "نحتفظ بحق الرد".

من السخافة القول إن دعم هذه الدول "المُمانعة" لحركات المقاومة واحتضان قادتها في فنادق عواصمها، هو سبب الوقوف الى جانبها في حربها ضد شعبها، فما قدّمته المقاومات على اختلافها لهذه الأنظمة على صعيد منحها أوراق قوة في سياساتها الخارجيّة أهم بكثير من المنافذ المفتوحة لتمرير السلاح الى لبنان وفلسطين أو التشدق بخطاب سياسي كاذب. فالمقاومة عبر التاريخ كانت عنواناً للذكاء في تجاوز كل الحصار حتى لو وقفت كل الأنظمة ضدها، بذلك تبقى مقاومة شعبية بامتياز، لأن الحاكم يذهب والشعب هو الذي يبقى متجذراً في الأرض التي تنتظر منه التحرير. وبالتالي فالمقاومة المُلاحقة من قبل الأنظمة والتي تتموّل من جيوب شعبها وفعالياتها وتعمل في كنف أهلها، لتحافظ على استقلاليتها، المقاومة التي تحافظ على مفهوم الثورة في عملها كفعل يعادل التصدي للظلم والحفاظ على حرية الشعب وحقه في المشاركة بالسلطة، هي التي تحفظ تلك العلاقة الجدلية بين المفهوم والتطبيق فلا تناقض مفهومها بذريعة الحفاظ على وجودها أو الوفاء لمن وقف جنبها.

بمعنى آخر، لا يمكن الحديث عن مقاومة أو حركة تحرير من دون أن يكون هدفها الحريّة، والحريّة تستتبع تحقيق مفاهيم غابت عن قواميسنا السياسية لعقود طويلة. مفاهيم غير مُحقّقة في ظل سيطرة حيتان المال والسماسرة التجار بالتعاون مع أجهزة الاستخبارات.

كان الأجدر بحركات المقاومة التي لا تزال تحتفي قروناً برجالات سطّروا أروع الملاحم التاريخية في الجهاد ودفع الظلم عن أقوامهم، أن تظل وفيّة لهؤلاء في وقوفها إلى جانب المظلوم ضد الظالم، حتى لو خسرت أوراقاً في السياسة المحليّة والخارجية. فمن المهم الإشارة الى أن احتضان حركات المقاومة في فلسطين ولبنان والعراق لم تكن سوى حصيلة تعاطف ودعم الشعوب التي فرضت احترام هذه الحركات على أنظمتها. الشعوب التي تدفع اليوم ثمن حريتها كما كانت تفعل المقاومة حتى وقت ليس ببعيد.

ولعل الإنفصام في الشخصية والذي وقعت فيه العديد من التيارات وغذّته اللعبة المذهبية التي صارت من "عدة الشغل" هذه الأيام، يتمرأى بشكل صارخ في تصريحات جهات تناصر أهالي البحرين المظلومين ضد حكامهم لكنها تقف ضد الشعب السوري المظلوم بدوره. وأكثر من ذلك تبنّي هذه الحركات المقاومة لتلك المقولات الاستغبائية حول وجود مؤامرة واختراقات جهات لبنانية للساحة السورية، متجاهلة كلياً مظلومية الشعب السوري ومعاناته الطويلة. الشيء نفسه يحدث على الطرف الآخر، سيما لدى جهات الإسلام السياسي السني، الذي لا يرى أحقيّة للشعب البحريني في التظاهر بل يسوّغ إبادته بحجة أنه من الشيعة "الروافض" وعملاء لإيران، فيما يناصر ثورات أخرى مثل ليبيا ومصر وتونس وسوريا (مثال قناة الجزيرة واستقالة الزميل غسان بن جدو احتجاجاً على النظر بعين واحدة).

مشهد الازدواجية هذا، يمكن استيعابه لدى جهات حكومية أو غير حكومية مُجبرة على السير في خط براغماتي لتحقيق مصالحها، لكن لا يوجد أي مسوّغ لا شرعي ولا قانوني ولا إنساني يبرّر انسلاخ حركات المقاومة عن قيمها السياسية والإنسانية، ووقوفها مع الظالم ضد المظلوم، ذلك أن الحريّة لا تتجزأ ومفهوم المقاومة لا يحتمل غير معنى واحد يصب في تحقيق الحريّة. إذ كيف يمكن لمن يقف على خطوط التماس مُسلّماً حياته لمفهوم الكرامة غير آبهٍ للعبة الربح والخسارة، أن يغض الطرف عن دموع أمهات فقدت أبناءها في أقبية هذه الأنظمة وما أكثرهم، أو يتناسى أن شعوباً تعيش في كنف هذا الحاكم تكابد الموت لتحصل على رغيف الخبز، وما بالك بالكرامة التي اصبحت مثل حلم نوستالجي يصادره أصغر موظف في الإدارات البيروقراطية لهذا النظام أو ذاك.

هي كلمة للتاريخ، هذه المقاومة التي حفرت مجدها بدماء شهدائها وحكمة قادتها وإصرارهم على التحدي، سقطت في مستنقع ازدواجية المعايير التي طالما عزفت اسطوانتها هذه في سياق نقدها للدول الغربية. المقاومة هي الثورة وهي الانتفاضة وهي الشعب واذا كانت غير ذلك، فلتبحث عن إسم آخر يناسب انتهازيتها وبراغماتيتها القاتلة.