15‏/10‏/2008

إنفلات المسكوت عنه في الخطاب الديني

معمر عطوي

بالنسبة الى إسلامي سابق طالما وُصف بالتشيّع السياسي، فإن الشيخ يوسف القرضاوي كان نموذجاً جيداً للعالم المجاهد الذي بقي في صفوف المناضلين ولم ينضم الى حاشية السلطان. لقد بقي ذلك الإخواني(عضو في حركة الإخوان المسلمين) الهارب من جحيم السلطة المصرية الى كنف الامارة النفطية، متجاوزاً غيره بفتاواه الداعمة للجهاد والمقاومة ضد اسرائيل وأميركا، غير آبه لبعض الحكام العرب الذين بدأوا ينظّرون للسلم، على غرار غيره من وعّاظ السلاطين، أئمة البلاط في بعض الدول الذين شرّعوا عمليات التنازل عن الارض والكرامة للمُحتل؛ ليس هناك ما هو أكثر دلالة على سوء استخدام النص الديني في إضفاء مشروعيّة على المواقف الخيانية والمُذّلة تجاه الكيان الصهيوني، من تعويم الآية القرآنية «وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكّل على الله إنه هو السميع العليم»(الأنفال).بيت القصيد هنا، مواقف القرضاوي الأخيرة حول الشيعة والتشييع، المواقف الصادمة التي أخرجت الرجل عن رشده ووضعته في مصاف علماء الدين الصغار الذين يتلهّون بالقشور وصغائر الأمور، ويغضّون الطرف عمّا يُحاك من مؤامرات ضد الفقراء والمستضعفين في العالم- ولا أريد تكرار كلاشيهات مستهلكه حول «استهداف الأمة العربية- الاسلامية» -.قد يتضمن الحديث عن خطر إيران على العالم العربي واستطراداً «السنّي»، شيئاً من الواقعيّة أمام ما نشاهده من استغراق البعد العقدي (من عقيدة) في الحقل المذهبي سواء كان السنّي أو الشيعي أو لدى الطوائف الأخرى غير الاسلامية. إذ يشكّل هذا البعد صلب الخطاب الديني. وبالتالي تصبح الأيديولوجيا لدى هذا المذهب أو ذاك هي آداة التحكّم والتوجيه في اطلاق الحكم الشرعي على الآخر.بهذا المعنى، يملك كل مذهب من المذاهب الاسلاميّة فكرة القضاء على المذهب الآخر، إن لم يكن عاجلاً فآجلاً، إنطلاقاً من قاعدة شرعية تفرض مقاتلة الضاليّن من المسلمين ومحاربتهم حتى يعودوا الى «الصراط المستقيم». وفي أدبيات كلا المذهبين (الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وغيرها من مصادر التشريع)، كم هائل من مسوّّغات التكفير والاتهام بالشرك والضلالة والابتداع. مسوّغات وصلت الى ذروتها مع الحركات التكفيرية في العراق وباكستان وأفغانستان، حيث يُقتل العشرات في المساجد والشوارع وتُرتكب أبشع عمليات التهجير(على طريقة الفرز العنصري).ما جاء به القرضاوي، ما هو الاّ بوح بالمسكوت عنه في الخطاب الديني، واطلاق لما هو مفكّر فيه وما هو غير مفكّر فيه، أي ما تقتضيه الغرائز العصبية القبائلية. هو جزء من معادلة قائمة منذ مئات السنين بين «روافض» و «نواصب»: الفئة الأولى هم الشيعة وسميوا بالروافض أو الرافضة لرفضهم خلافة بعض الصحابة، على اعتبار أن الخلافة حق «الهي» للإمام علي (واقعة غدير خم، الذي أعلن فيها محمد، علياً خليفة له). امّا الفئة الثانية فهم أهل السنة، وسميوا بالنواصب «لأنهم ناصبوا العداء لأهل البيت»، وفي هذا الاتهام تجنّي على أهل السنة لأنهم لا يكرهون أحداً من أهل البيت. انما يغالون في حب الصحابة ولا سيما «العشرة المبشرين بالجنة» وبينهم علي بن أبي طالب ، لكنهم يعترفون بالخلافة لعلي كخليفة رابع بعد أبو بكر وعمر وعثمان، في حين يغالي الشيعة بحب أهل البيت لدرجة تصل الى تأليف الأساطير حول قدراتهم الخارقة.من هنا يتكوّن لدى أصحاب العمائم عند المذهبين كم هائل من مسوّغات الاتهام والتكفير، لدرجة أن الدروس الدينية وحلقات العلم المُغلقة في المساجد والحوزات، متخمة بتعابير السخرية من الآخر وجعله في مرتبة دونية على غرار «الغوييم» في الخطاب التوراتي اليهودي.لعلّ ما أطلقه القرضاوي من مخاوف، هو مردود الى صاحبه على اعتبار أن هذا الهاجس الذي يقضّ مضجع بعض علماء الدين، والذي يغذيّه السياسيون بالدعم المالي والاعلامي والتغطية السياسية والأمنية، هو هاجس الجميع: هاجس الشيعة تجاه الحكومات السنيّة، باضطهادهم، والذي بدأ منذ خلافة الأمويين وصولاً حتى مملكات آل سعود في الجزيرة العربية، وهاجس المسيحيين تجاه الخلافة الاسلامية، من جعلهم أهل ذمة، وهاجس الدروز والعلويين والصابئة والنصيرية وغيرها ، من تحويلهم الى فئة مستهدفة في كيانات اسلامية تسيطر عليها حركات التكفير.ما لا شك فيه، أن ما جاء به الشيخ القرضاوي، وهو أحد أهم العناصر الفاعلة في التجمّع العالمي للتقريب بين المذاهب الاسلامية(مقره طهران)، هو تعبير واضح عن ما هو مسكوت عنه في الخطاب الاعلامي الديني وما هو متداول بين المشايخ والمريدين والمقلدين، وما هو سائد وسط شرائح المجتمع المتأثرة بأدبيات المساجد وحكايا الجدّات حول الموروث الديني.من هنا، تصبح كل منظمّات الوحدة والتقريب بين المذاهب، كيانات تستهلك المال والوقت والجهود، من دون أن تؤسّس مدماكاً واحداً يحل بعض القضايا الخلافية بين المذهبين. جهود كبيرة تبذل ونقود كثيرة تُصرف، تحت شعار الوحدة «انما المؤمنون أخوة»(الحجرات) والقضاء على الفتنة، بهدف التفرّغ للأولويات، مثل محاربة الصهيونية والاستكبار العالمي، لكن من دون جدوى.سلسلة من دعوات الغداء والعشاء والمؤتمرات الباهظة الثمن في طهران أو الرياض أو الدوحة، تبدأ بتقبيل الجبين وتبويس اللحى والتكاذب باستخدام بعض الآيات: «واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا»، «وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُم»(آل عمران). أو الآحاديث النبوية: «مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى»، وتنتهي في شوارع بيروت أو بغداد ولاهور وكراتشي، بمجازر جماعية واحراق بيوت وترحيل قسري تحت شعارات جديدة، اذ استبدلت كلمة «الرافضة» بالصفوية» و «الناصبة» بالأمويين.لعلّ هواجس القرضاوي تكون مشروعة، أمام ما يفكّر به هو نفسه. لأن الخوف من الآخر أحياناً ينطلق من فهم عميق للذات ونواياها الدفينة. ولأن الحديث عن التقريب بين المذاهب في اطار «أولويات الأمة»، يعني أن «المابعديات»، هي تصفية الحسابات بين الجانبين؛ طبعاً الحديث عن تصفية الحساب المؤجّل هذه، مدوّن في الكتب الصفراء التي تزخر بها مكتبات الاسلاميين، والتي تتحدث عن «مستقبل الأمة الاسلامية». اذ تتضمن هذه الكتب كل ما يصبّ في عملية تعزيز الفرز المذهبي بين فئة «ناجية» وأخرى «ضالّة» او «مبتدعة»(من البدع)، والأحاديث النبوية التي تتحدث عن ذلك كثيرة منها الصحيح ومنها الضعيف ومنها الاسرائيلي.بأي حال، إذا كان هناك من خطر تشييع في البلدان «السنيّة»، فيمكن مواجهته بالفكر والمنطق والحوار ومقارعة الحجة بالحجة، لا باطلاق الاتهامات وتعويم «فوبيا التشيّع» في وسائل الاعلام على طريقة «الخطر الصهيوني» سابقاً ثم «خطر الإلحاد» في عهد السوفيات.فكما تزخر دور النشر والمعارض بكتب سبّ السنة والنيل من صحابة الرسول، هناك الكتب التي تسبّ الشيعة وتكفّرهم وتحطّ من قدر علمائهم. أمام هذه التراجيديا التاريخية المتجددة بلغة غرائزية، ليس أمام أصحاب العقول النيرة من كلا الجانبين سوى تعويم دلالات الآية القرآنية « تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ»(البقرة). وما عدا ذلك هو خلاف سياسي محض لا يجوز لا شرعاً ولا أخلاقاً زج الدين في أتونه.

الأخبار: بيروت:15-10-2008

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق