عمال جنوبيون يتجمعون أمام نقطة باجو للعبور في كوريا الشمالية أمس
لم تكن الحرب التي شهدتها شبه الجزيرة الكورية بين عامي1950 و1953، سوى
محطة دموية زرعت الشقاق بين أبناء العائلة الواحدة ثمناً لحرب كونية بطلاها
الرأسمالية والشيوعية. إلّا أن مجمّع كيسونغ الصناعي شكّل مساحة رحبة
واستثنائية استطاع من خلالها كوريون من البلدين الالتقاء في مكان واحد
لقد ظهر كيسونغ أمس كأنه المسمار الأخير في نعش العلاقات بين بيونغ يانغ وسيول، بعدما قررت الأولى إقفاله بوجه العمال والموظفين الآتين من الجنوب.
المجمّع الصناعي الذي تأسس أواخر عام 2003، في ظل «دبلوماسية الأمل» التي انتهجتها كوريا الجنوبية بين 1998 و2008 بهدف تشجيع الاتصال بين البلدين العدوين، أصبح نموذجاً فريداً لزواج مصلحة بين بلد رأسمالي وآخر اشتراكي. زواج أدى إلى ولادة طفل هجين سمي «كيسونغ» جمع بين فكرتين متناقضتين.
أما أساس الفكرة، فقد جرى التوصل إليها بعد القمة التاريخية التي عقدت بين الكوريتين في شهر حزيران عام 2000 والتي جمعت الزعيمين الراحلين الجنوبي كيم ديه يونغ، والشمالي كيم يونغ إيل. وفيما ارتأت السلطات في كوريا الشعبية الديموقراطية (الشمالية) تسميته «الهيئة الإدارية الخاصة في كوريا الشمالية»، برز كيسونغ كمشروع اقتصادي ناجح نما مع الوقت ليصبح مجالاً استثمارياً مغرياً للشركات الكورية الجنوبية، التي حققت في عام 2012 نحو 496 مليون دولار، بزيادة نحو 46 مليون دولار عن عام 2011.
ولطالما كان هذا المجمّع الضخم مكاناً للقاء أبناء شبه الجزيرة الذين تربط بين معظمهم قرابة نسب أو دم، إذ تشكل عائلتا كيم ولي، الجزء الأكبر من العائلات الكورية التي توزعت بين شمال وجنوب منذ الخمسينيات.
كيسونغ بات يحتضن الآن أكثر من 53 ألف عامل من كوريا الشمالية و850 موظفاً، معظمهم إداريون ومديرو أقسام من كوريا الجنوبية يعملون جميعاً لأكثر من 120 شركة جنوبية، تنتج الملابس والأحذية والساعات وأدوات المطبخ.
ليس هو مجرد مكان يقع على بعد نحو عشرة كيلومترات من الحدود بين البلدين داخل الأراضي الشمالية عبر معبر باجو، بل أهميته هي في توفير شروط إمكان خرق حظر عمره نيف ونصف قرن على اللقاء بين مجموعتين متشكلتين تاريخياً من عرق واحد وعائلة واحدة، طبعاً فقط لمن يحصل على إذن عمل أو زيارة من سلطتي سيول وبيونغ يانغ معاً. فبالنسبة إلى موظفي كوريا الجنوبية عليهم صباح كل يوم التوجه عبر معبر باجو من خلال قطار أو حافلة مصطحبين إذن المرور الذي تطلبه قوات البلدين وقوات حفظ السلام في شبه الجزيرة الكورية المتشكلة من عناصر دولية تتمركز بين الكوريتين في منطقة معزولة السلاح.
داخل المصنع احتكاك مباشر بين العاملين على مستويين مهني واجتماعي، مع أن فترة تناول الطعام تفرض على كل مجموعة أن تجتمع في مقصفها الخاص. إلا أن المفارقة الجميلة هي أن كيسونغ ظل يشكل «شعرة معاوية» بين السلطتين الرأسمالية والشيوعية (لم يتوقف العمل فيه إلا ليوم واحد في 2009) رغم التوترات التي وصلت عام 2010 إلى توقف كافة أشكال الاتصال. أمر تكرر منذ نحو شهر حتى الآن، حيث باتت كل الخطوط الساخنة والطارئة مقطوعة، على خلفية استفزازات كورية جنوبية أميركية للنظام الستاليني (تارة تظهر بفرض عقوبات دولية جديدة على الدولة الشيوعية، وتارة أخرى بمناورات مشتركة بدأت تستخدم قاذفات تشكل خطراً استراتيجياً على بيونغ يانغ مثل «بي 2» و«إف 22»).
مما لا شك فيه، أن مجمّع كيسونغ جمع فكرتين متناقضتين تحت سقف واحد، ذلك أن المنافع المتبادلة التي يجنيها الطرفان تبرّر لكل منهما الاستمرار في تعزيز هذا المشروع، الذي أعلن الرئيس الجنوبي السابق لي ميونغ باك في عام 2010، نيته إنشاء مجمّع آخر على شاكلته لرفد محاولات التطبيع بين البلدين.
لعل أهم فوائد هذه الفكرة للنظام الرأسمالي في سيول هي استغلال طاقة بشرية هائلة ورخيصة لتوسيع مجالات إنتاجه (يتقاضى العامل الشمالي نحو 140 دولاراً فقط شهرياً). هذا على المستوى الاقتصادي، أما على المستوى السياسي فتكمن الفكرة في اختراق الأسوار الحديدية لنظام كوريا الشمالية لترويج ثقافة الرأسمالية والاستهلاك. ولعل خطورة توقف كيسونغ عن العمل أنها نابعة من كونه الطلقة الأخيرة في سلاح الزعيم الكوري الشمالي كيم يونغ أون، الذي وصلت حدة خطابه ضد الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية أخيراً إلى حد التهديد بحرب نووية واستهداف السواحل الأميركية. لذلك بدت سيول متخوفة من هذه الخطوة، فقامت بتحذير عدوتها اللدود بأن لديها خطة للطوارئ تنص على إمكان اللجوء إلى القوة لضمان أمن مواطنيها العاملين في كيسونغ.
وقد عملت حكومة سيول باستمرار على توفير استمرار هذا المشروع إلى حد أنها أجرت العام الماضي تدقيقاً في ما إذا كانت ستقدم المزيد من الدعم للشركات التي لديها مرافق تشغيل في كيسونغ.
وبالنسبة إلى الجانب الآخر الشيوعي، يُعدّ مجمع كيسونغ أحد المصادر المحدودة للعملة الصعبة بالنسبة إلى كوريا الشمالية؛ إذ يدر عليها نحو 80 مليون دولار سنوياً، إضافة إلى الضرائب التي تجبيها الحكومة في بيونغ يانغ من هذا المشروع. ففي العام الماضي تلقت إحدى الشركات العاملة هناك إخطاراً من الجانب الكوري الشمالي بدفع ضرائب قيمتها 87 ألف دولار، وذلك حسب القوانين الجديدة التي وضعتها بيونغ يانغ في شهر آب الماضي.
وحاولت كوريا الشمالية أن تبقي كيسونغ بمثابة خط الاتصال الوحيد بعد أن قطعت الخط الساخن الأسبوع الماضي. وباتت تخطر جارتها الجنوبية بموافقتها على عمليات الدخول والخروج للجنة إدارة مجمع كيسونغ الصناعي عبر الهاتف السلكي.
لقد ظهر كيسونغ أمس كأنه المسمار الأخير في نعش العلاقات بين بيونغ يانغ وسيول، بعدما قررت الأولى إقفاله بوجه العمال والموظفين الآتين من الجنوب.
المجمّع الصناعي الذي تأسس أواخر عام 2003، في ظل «دبلوماسية الأمل» التي انتهجتها كوريا الجنوبية بين 1998 و2008 بهدف تشجيع الاتصال بين البلدين العدوين، أصبح نموذجاً فريداً لزواج مصلحة بين بلد رأسمالي وآخر اشتراكي. زواج أدى إلى ولادة طفل هجين سمي «كيسونغ» جمع بين فكرتين متناقضتين.
أما أساس الفكرة، فقد جرى التوصل إليها بعد القمة التاريخية التي عقدت بين الكوريتين في شهر حزيران عام 2000 والتي جمعت الزعيمين الراحلين الجنوبي كيم ديه يونغ، والشمالي كيم يونغ إيل. وفيما ارتأت السلطات في كوريا الشعبية الديموقراطية (الشمالية) تسميته «الهيئة الإدارية الخاصة في كوريا الشمالية»، برز كيسونغ كمشروع اقتصادي ناجح نما مع الوقت ليصبح مجالاً استثمارياً مغرياً للشركات الكورية الجنوبية، التي حققت في عام 2012 نحو 496 مليون دولار، بزيادة نحو 46 مليون دولار عن عام 2011.
ولطالما كان هذا المجمّع الضخم مكاناً للقاء أبناء شبه الجزيرة الذين تربط بين معظمهم قرابة نسب أو دم، إذ تشكل عائلتا كيم ولي، الجزء الأكبر من العائلات الكورية التي توزعت بين شمال وجنوب منذ الخمسينيات.
كيسونغ بات يحتضن الآن أكثر من 53 ألف عامل من كوريا الشمالية و850 موظفاً، معظمهم إداريون ومديرو أقسام من كوريا الجنوبية يعملون جميعاً لأكثر من 120 شركة جنوبية، تنتج الملابس والأحذية والساعات وأدوات المطبخ.
ليس هو مجرد مكان يقع على بعد نحو عشرة كيلومترات من الحدود بين البلدين داخل الأراضي الشمالية عبر معبر باجو، بل أهميته هي في توفير شروط إمكان خرق حظر عمره نيف ونصف قرن على اللقاء بين مجموعتين متشكلتين تاريخياً من عرق واحد وعائلة واحدة، طبعاً فقط لمن يحصل على إذن عمل أو زيارة من سلطتي سيول وبيونغ يانغ معاً. فبالنسبة إلى موظفي كوريا الجنوبية عليهم صباح كل يوم التوجه عبر معبر باجو من خلال قطار أو حافلة مصطحبين إذن المرور الذي تطلبه قوات البلدين وقوات حفظ السلام في شبه الجزيرة الكورية المتشكلة من عناصر دولية تتمركز بين الكوريتين في منطقة معزولة السلاح.
داخل المصنع احتكاك مباشر بين العاملين على مستويين مهني واجتماعي، مع أن فترة تناول الطعام تفرض على كل مجموعة أن تجتمع في مقصفها الخاص. إلا أن المفارقة الجميلة هي أن كيسونغ ظل يشكل «شعرة معاوية» بين السلطتين الرأسمالية والشيوعية (لم يتوقف العمل فيه إلا ليوم واحد في 2009) رغم التوترات التي وصلت عام 2010 إلى توقف كافة أشكال الاتصال. أمر تكرر منذ نحو شهر حتى الآن، حيث باتت كل الخطوط الساخنة والطارئة مقطوعة، على خلفية استفزازات كورية جنوبية أميركية للنظام الستاليني (تارة تظهر بفرض عقوبات دولية جديدة على الدولة الشيوعية، وتارة أخرى بمناورات مشتركة بدأت تستخدم قاذفات تشكل خطراً استراتيجياً على بيونغ يانغ مثل «بي 2» و«إف 22»).
مما لا شك فيه، أن مجمّع كيسونغ جمع فكرتين متناقضتين تحت سقف واحد، ذلك أن المنافع المتبادلة التي يجنيها الطرفان تبرّر لكل منهما الاستمرار في تعزيز هذا المشروع، الذي أعلن الرئيس الجنوبي السابق لي ميونغ باك في عام 2010، نيته إنشاء مجمّع آخر على شاكلته لرفد محاولات التطبيع بين البلدين.
لعل أهم فوائد هذه الفكرة للنظام الرأسمالي في سيول هي استغلال طاقة بشرية هائلة ورخيصة لتوسيع مجالات إنتاجه (يتقاضى العامل الشمالي نحو 140 دولاراً فقط شهرياً). هذا على المستوى الاقتصادي، أما على المستوى السياسي فتكمن الفكرة في اختراق الأسوار الحديدية لنظام كوريا الشمالية لترويج ثقافة الرأسمالية والاستهلاك. ولعل خطورة توقف كيسونغ عن العمل أنها نابعة من كونه الطلقة الأخيرة في سلاح الزعيم الكوري الشمالي كيم يونغ أون، الذي وصلت حدة خطابه ضد الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية أخيراً إلى حد التهديد بحرب نووية واستهداف السواحل الأميركية. لذلك بدت سيول متخوفة من هذه الخطوة، فقامت بتحذير عدوتها اللدود بأن لديها خطة للطوارئ تنص على إمكان اللجوء إلى القوة لضمان أمن مواطنيها العاملين في كيسونغ.
وقد عملت حكومة سيول باستمرار على توفير استمرار هذا المشروع إلى حد أنها أجرت العام الماضي تدقيقاً في ما إذا كانت ستقدم المزيد من الدعم للشركات التي لديها مرافق تشغيل في كيسونغ.
وبالنسبة إلى الجانب الآخر الشيوعي، يُعدّ مجمع كيسونغ أحد المصادر المحدودة للعملة الصعبة بالنسبة إلى كوريا الشمالية؛ إذ يدر عليها نحو 80 مليون دولار سنوياً، إضافة إلى الضرائب التي تجبيها الحكومة في بيونغ يانغ من هذا المشروع. ففي العام الماضي تلقت إحدى الشركات العاملة هناك إخطاراً من الجانب الكوري الشمالي بدفع ضرائب قيمتها 87 ألف دولار، وذلك حسب القوانين الجديدة التي وضعتها بيونغ يانغ في شهر آب الماضي.
وحاولت كوريا الشمالية أن تبقي كيسونغ بمثابة خط الاتصال الوحيد بعد أن قطعت الخط الساخن الأسبوع الماضي. وباتت تخطر جارتها الجنوبية بموافقتها على عمليات الدخول والخروج للجنة إدارة مجمع كيسونغ الصناعي عبر الهاتف السلكي.
"الأخبار"
العدد ١٩٧١ الخميس ٤ نيسان ٢٠
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق