معمر عطوي
يفرض عليك الواقع السياسي الراهن، الدخول في انتقائية سيئة بين اصطفافاته القائمة على اعتبارات يمتزج فيها العامل الطائفي والعائلي بالمصلحي والطبقي. اصطفافات ينتج منها خطان متوازيان في تخلّفهما وسوء إدارتهما للأمور، وإن كان المرء يجنح إلى أحدهما، أحياناً، من منطلق تقدير الفداء بالدم لا أكثر.
على مستوى لبنان، يمثّل هذين الخطين تياران يتصارعان أحياناً لدرجة محاولة الإلغاء، بذريعة التخوين أو التكفير أو الاتهام بجر البلد نحو الفتنة. ويتسلّح كل من التيارين بتسمية تلاصقه مهما جرى من تحولات أو تغيرات. فحركة «8 آذار» تصر على تسمية «المعارضة»، للتعريف عنها كمجموعة تضم أحزاباً وتيارات وشراذم وشللاً، رغم أنها جزء من الحكومة. بل تطالب دائماً بأن تكون في «حكومة وحدة وطنية» ولو بالقوة، وتحتفظ في الوقت نفسه بعنوان «المعارضة». وتفرض ما تفرضه من شروط على الطرف الآخر تحت شعار كاذب «الحفاظ على التعايش». شعار وهمي بدرجة الوهمية التي يتمتع بها شعار «لبنان أولاً».
والمفارقة أن كل فريق يتسلّح باجتهاداته الخاصة عن «الديموقراطية التوافقية»، التي ما أنزل أي قانون وضعي أو دستور مدني بها من سلطان. بل ذهب البعض بطريقة مثيرة للسخرية إلى التمييز بين أكثر نيابية وأكثرية عددية. فحين تكون مصلحة أحد الأفرقاء «الطوائف» في «تيار 14 شباط»، في عدم تغلّب طائفة معينة عددياً على الأخرى، في الوظائف العامة والمناصب الكبرى العسكرية والمدنية، يصبح اعتماد التوافق مسلّمة لا بد منها. وحين يناقض هذا النوع من الديموقراطية البدعة، التي تشبه «مجالس القبائل» في بعض الدول العربية، أو «لويا جيرغا» في باكستان وأفغانستان، يصبح اللجوء إلى الشعب «الغوغاء» مظهراً من مظاهر التمدن، حتى لو كان السبيل إليهم، استغلالاً لضائقتهم الاقتصادية والمعيشية، أو عزفاً على أوتارهم المذهبية. وهنا يكمن عقم كلتا
❞ماذا فعل فريقا 8 و14 آذار غير ترسيخ فكرة «نقاء المذهب» وارتباط الخط السياسي بـ«المقدّس»؟❝الأكثريتين، سواء كانت برلمانية أو عددية. جماهير سرعان ما تنتفض لدى سماع خطبة رجل دين من هنا أو نكتة رجل سياسة من هنالك أو تحذير من إبادة مرتقبة ضد «الجماعة»، على طريقة فبركة الخوف. والحديث عن «8 آذار» يشبه الحديث عن «دول الممانعة»، التي أُطلقت بإزاء «دول الاعتدال». والممانعة هنا أثبتت عقمها، بدليل أن هذا التعبير لم يحقق لهذا المحور من مناعة ضد «الغزو الثقافي والفكري» أو حتى العسكري، سوى الارتداد على أهل البيت من المواطنين الذين صدّقوا كذبة التصدي، فزُجّوا في السجون أو أُرسلوا للمنافي والقبور، بذريعة منافية للأخلاق السياسية والطهرانية، التي يدّعونها في مواجهة خطر الصهيونية والرأسمالية والرجعية العربية. هو تمنّع على طريقة «الدلع أو الغنج»، أو الخوف من الشعب، الذي لا بد أن يكون له دور في ممارسة النقد والتغيير ولو بعد حين من القمع ومصادرة حرية الرأي وتعميم الجهل والتخلف والأمية، بذريعة التفرّغ لمقارعة من لم تتحرك أي من هذه الدول، لمقارعته حتى حين وصل إلى حدودها، أو لا يزال يجثم على بعض أرضها.
يمكن المراقب أن يبدأ في محاكمته لهاتين الظاهرتين، من الإنسان، كمرتكز لا بد منه ومعيار أساسي في برنامج هذا التيار أو ذاك، اللذين يزعمان معاً حملهما رسالة إنسانية رائدة، وخططاً مستقبلية واعدة ووعوداً حريرية مغرية. السؤال يبدأ من الشباب، الذي يعتبر المنطلق للتغيير. ماذا فعل فريق «8 آذار» أو «14 آذار» لشباب لبنان، غير ترسيخ فكرة «نقاء المذهب» وارتباط الخط السياسي بـ«المقدّس»، بصورة لا تبتعد أبداً عن فاشية بعض دول أوروبا في بداية القرن الماضي.
ماذا فعل القيّمون على الحياة السياسية في لبنان، غير ترسيخ فكرة الخضوع للبيك والأمير والشيخ والأفندي، وأخيراً السيّد. وهل هناك في لبنان فريق يتمتع بحس تمدني آكثر من الآخر، أو ذهنية نقدية تعيد للعقل تألقه. أم أن الكل لديه القابلية لخرق القانون باسم حماية الطائفة، بل حتى بعدم الرضوخ للقانون بدءاً من خرق قانون إشارات السير ورمي النفايات من نوافذ السيارات.
هنا، لا يمكن القول إن أبناء الضاحية هم أكثر بعداً عن القانون من أبناء عكار أو بعلبك أو صيدا أو الطريق الجديدة. كل من هؤلاء لديه القابلية لسرقة خطوط الكهرباء والاحتيال على الدولة بتقديم دفاتر محاسبة وهمية في شركاته، وممارسة الإزعاج العام بمهنية عالية. كل يسرق الدولة بطريقته. وكل يتجاوز معايير السلامة العامة وقواعد سلوك المواطن الصالح، أو عدم حفظ المال العام وحقوق الآخرين، وفقاً لأسلوبه الخاص في ممارسة ذلك.
من هنا يصبح مظهر شباب لبنان هو ذلك الشباب الذي يفرغ سموم نراجيله المنتشرة في تجمعاته المناطقية أو الطائفيلة، كوسيلة وحيدة للتسلية. شباب يتعمد «لغم» عوادم سياراته لتلوّث بقدر ما تستطيع بيئة لبنان الجميلة (سابقاًُ).
هذه هي التيارات السياسية، التي لم يُسجّّل في وسائل إعلامها، وخصوصاً البصرية، سوى تعميم ثقافة التسطيح والتسخيف عن طريق تعميم ثقافة الاستهلاك، وترويج مسلسلات «رخيصة» وبرامج فضائحية، تشبه الصحافة الصفراء. والأنكى من ذلك، أنه لم يسجل لدى أي من هؤلاء برنامج أطفال أو أغان خاصة بهذه المرحلة العمرية الجميلة، ترتقي إلى مستوى تربوي يماثل ما يطلقونه من شعارات ويدّعونه من «طهرانية» أخلاقية في ممارستهم للسياسة.
الأطفال والشباب في لبنان هم من يدفع فاتورة التنافس السياسي، سواء عبر تعميم البطالة بينهم، عن طريق دفع رواتب شهرية لقاء جلوسهم في أحيائهم «لحمايتها» من الآخر القادم من الحي المجاور أحياناً. هم من يدفعون فاتورة وصول الزعماء إلى كراسيهم، ولو على دمائهم المُسالة في الطرق، ورئاتهم الملوثة بنيكوتين التنبك المعسّل وغيره من سموم أصبحت جزءاً من المشهد الاجتماعي العام.
هذا هو المشهد السائد في لبنان؛ تيارات سياسية تحمل مشاريع «تغييرية». لكن التغيير لا يتم إلا نحو التخلف والرجعية والتعصب والشوفينية والأمية. والأخطر من كل هذه الأنواع، تحدي البيئة بكل وسائل تلويثها. حتى وسائل التقنيات الحديثة باتت تستخدم لتخزين النكات الطائفية ورسائل الشحن المذهبي، أو السخرية من الآخر، الذي يُفترض أنّه (كما تقول أدبيات «القادة») شريك في الوطن.
لعل هذه الصورة السوداء، لهذا الوطن الوهمي، تؤكد عقم التهويمات بشأن «التغيير نحو الأفضل»، في ظل ترسيخ ذهنية الغلبة الطائفية، وتسويغ الاستغلال باسم الحفاظ على المقدّس. وغسل الأدمغة لتنسى تاريخ هؤلاء الحاكمين بأمرهم، بل تصوير كل شخصية «فذة» منهم على هيئة «يسوع المخلّص».
في خضم هذه الاصطفافات، من هو القادر على مخاطبة العقل؟ من هو الذي يستطيع أن يعيد العقل إلى حقله الطبيعي بدلاً من الاستمرار في مصادرته؟
«الأخبار»: عدد الاربعاء ٣٠ أيلول ٢٠٠٩
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق