من يصدّق أن أول مُجاهدة ضد الاستعمار في التاريخ العربي الحديث، تعاني الأمرّين من أجل كسب قوتها اليومي؟ رمز الثورة الجزائرية، جميلة بوحيرد، التي لم تستسلم لكل أساليب التعذيب الفرنسية في شبابها، تصرخ اليوم عاجزة عن دفع تكاليف علاجها وحاجاتها الأساسية. صرخة ثائرة في منتصف السبعينيات من عمرها، تخلّت عنها السلطة والمجتمع
معمر عطوي(بيروت)، سعيد خطيبي (الجزائر)
لم تجد تلك المرأة الصلبة، التي أسهمت بفاعلية في حرب استقلال الجزائر (1954 ــ 1962)، غير أبناء شعبها لتصارحهم بالحقيقة؛ جميلة بوحيرد مُفلسة، هذا هو الواقع. تلك المرأة التي شغلت العالم في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، بنضالها ضد المستعمر ومواقفها المشرّفة في سجون الاحتلال، أصبحت في الـ74 من عمرها، أسيرة المرض والحاجة. رسالة قصيرة إلى الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة، وأخرى إلى شعب المليون شهيد، كتبتهما في التاسع من الشهر الجاري، ونشرتهما بعض الصحف وبعض مواقع الإنترنت، تضمنتا عدداً من الدلالات المؤثرة. لقد كشفت الشهيدة الحيّة، في هاتين الرسالتين، عن الحالة الاجتماعية الصعبة التي صارت تتخبّط فيها. قالت لبوتفليقة: «أطلب منكم أن تتوقفوا عن إهانتنا، وعليكم أن تراجعوا معاشنا الضئيل، وذلك حتى نُكمل الوقت القليل الباقي لنا في هذه الحياة بما يتناسب مع الحد الأدنى من الكرامة».
الصورة (كامل جابر): جميلة والمناضلة الفلسطينية ليلى خالد في جنوب لبنان، تموز العام 2009
رفضت عروضاً من أمراء خليجيين لعلاجها: مبادرة لم أستطع تقبّلهاأمّا رسالتها لشعبها، فجاء فيها: «سبب مخاطبتكم هو اقتناعي بأنكم تمثّلون شعباً متعدداً وكريماً أحبه كثيراً. أشعر اليوم بضرورة لطلب مساعدتكم. اسمحوا لي بتقديم نفسي. أنا جميلة بوحيرد. حكمت عليّ المحكمة العسكرية في الجزائر عام 1957 بالإعدام». وآثرت بوحيرد جملة جدّ مختصرة للإشارة إلى سيرتها النضالية. قبل أن تضع الإصبع على الجرح، مضيفة: «أجد نفسي اليوم في وضعية جدّ حرجة. مريضة. نصحني الأطباء بإجراء ثلاث عمليات جراحية. صعبة ومكلفة. لكن لا أستطيع تحمّل تكاليفها. منحة التقاعد ومعاش الحرب المتواضع لا يغطيان احتياجات العمليات الجراحية». وهنا تتعالى عن كبريائها الثورية، لتطلب بكل تواضع من الشعب الجزائري «مساعدتي ضمن إطار إمكاناتكم». تلك المرأة التي جسّدت الحلم الثوري بنضالها، وكانت أمل كل الثوار العرب، باتت كأنها تقول اليوم إنها لا تريد أي معونة من الخارج، بعدما عرض بعض الأثرياء العرب المساعدة.
وفي رسالتها إلى شعبها كشفت قائلة: «أتقدم بالشكر الجزيل لبعض أمراء دول الخليج، الذين أعدّهم إخوة. أشكرهم على مبادرتهم للتكلّف بمستحقات العلاج. مبادرة لم أستطع تقبّلها». جاءت رسالة بوحيرد بعد أيام من احتفالات الثورة الجزائرية، التي تصادف في شهر تشرين الثاني. وبعد انتهاء سلسلة من التظاهرات الرسمية بهذه المناسبة.
في رسالتها القصيرة، كشفت جميلة بعض زيف الخطابات الحكومية، فيما جاءت ردود الأوساط الرسمية متباينة إزاءها. وذكرت تنظيمات رسمية أن المرأة تسرعت في كتابة الرسالة، ووجب عليها التوجه إلى الجهات الرسمية قبل فضح حالتها. أمّا وزارة المجاهدين فالتزمت الصمت، فيما أثارت الرسالة حال تعاطف واسعة بين مختلف الفئات الاجتماعية. وتهافت كثير من رجال الأعمال والمواطنين العاديين إلى تقديم مساعداتهم والتماس رضى المناضلة العريقة. بوحيرد، التي زارت جنوب لبنان برفقة المناضلة الفلسطينية ليلى خالد، في ذكرى حرب تموز، أرادت لرسالتها التي عنونتها بـ«السيد رئيس جزائر أردتُها مستقلة»، أن تفضح هذا العري العربي. لذلك جاءت الرسالة عرضاً مقتضباً ليوميات حياتها وحياة كل من شارك في حرب التحرير. حياة مشحونة بالفقر والديون في ظل راتب ضئيل يتقاضونه هؤلاء الذين دفعوا أغلى ما لديهم من أجل استقلال الجزائر. فقد بات على «كل من البقّال والجزّار والمحالّ... أن يشهدوا على القروض التي يمنحونها لي. ولم أتخيّل يوماً أن أُعزّز مداخيلي بطرق غير شرعية أصبحت للأسف منتشرة في بلدي». المناضلة المولودة عام 1935، لم تنسَ أن تغمز من قناة الوضع الباذخ للرئيس ومَن حوله، بقولها: «الرواتب التي تُمنَح لهم (للمجاهدين) لا تتجاوز المستحقات التي تُمنَح عامةً لنواب المجلس الشعبي الوطني ومجلس الأمة، وكذا ما تتقاضونه أنتم (بوتفليقة) وكل الذين يحومون حولكم».
ولمن لا يعرف ابنة حيّ القصبة في ولاية قسنطينة، التي عاشت وحيدة بين سبعة شبان، فهي متعددة المواهب. لم تلتزم النضال لأنها فشلت في جوانب أخرى، بل على العكس، هي مصممة الأزياء والراقصة الكلاسيكية، والفارسة البارعة في ركوب الخيل. لم يمنعها كل هذا الشغف بالحياة، من أن تلتحق بصفوف الثوار في عام 1954، حيث انضمت إلى جبهة التحرير الوطني الجزائرية لمقاومة الاحتلال الفرنسي. كانت يومها في العشرين من عمرها. ثم التحقت بصفوف الفدائيين، وكانت أولى المتطوعات لزرع القنابل في طريق آليات المستعمرين وجنودهم. أثارت أعمالها غيظ ضباط «الأم الحنون»، وأصبحت المُطارَدة «الرقم 1». أُلقي القبض عليها عام 1957، جريحة بسبب إصابتها برصاصة في الكتف. وبدأت رحلتها القاسية مع التعذيب من المستشفى إلى المعتقل، حيث كانت تتعرّض لحالات إغماء متواصلة. لكن الفتاة التي طردها ناظر المدرسة يوماً، لأنها كانت تصرخ «الجزائر أمّنا» في وجه الطلاب المتفرنسين الذين اعتادوا ترداد عبارة «فرنسا أمنا»، صمدت أمام صعقات الكهرباء في غرف التعذيب. وكأنها تثأر لإخوانها بن مهيري وبو منجل وزضور، الذين قتلتهم فرنسا.
في رسالتها إلى «السيد رئيس جزائر أردتها مستقلّة» غمزت من قناة بذخ بوتفليقة
لم تفصح جميلة عن مكان مندوب القيادة في العاصمة، ياسيف السعدي، الذي كانت هي نفسها، حلقة الوصل بينه وبين قائد الجبل. كذلك لم تكشف عن أي من رفاقها في السلاح، رغم كل أساليب الترهيب والترغيب، لدرجة أن المحققين الفرنسيين يئسوا منها، فيما قال لها المحامي الفرنسي مسيو قرجيه، بمجرد توليه الدفاع عنها: «لست وحدك، فكل شرفاء العالم معك».ورغم اعتراف رفيقتها في المقاومة، جميلة بوعزة، بأن بوحيرد هي التي حرّضتها على إلقاء المتفجرات، بقيت جميلة على موقفها، إلى أن قرّروا محاكمتها صورياً. وانتهت المحكمة إلى توجيه التهم التالية لجميلة بوحيرد: «إحراز متفجرات والشروع في قتل والاشتراك في حوادث قتل وفي حوادث شروع في قتل وتدمير مبانٍ بالمتفجرات والاشتراك في حوادث مماثلة والانضمام إلى جماعة من القتلة». وصدر عليها حكم بالإعدام على أن ينفذ في 7 آذار 1958.حكم واجهته جميلة بوحيرد، ضاحكة بقوة وعصبية جعلت القاضي يصرخ فيها، قائلاً: «لا تضحكي في موقف الجد». لكن العالم كله ثار واجتمعت لجنة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، بعدما تلقّت الملايين من برقيات الاستنكار من كل الأرجاء.وقام محاميها الفرنسي، جاك فيرجيس، الذي تزوجته بعد تحريرها، بحملة علاقات عامة واسعة، أكسبته شهرة عالمية. حملة أسهمت بتحريك الرأي العام العالمي تأييداً لجميلة، ما أجبر الفرنسيين على تأجيل الحكم، متعمدين إخفاء موعده هذه المرة عن الإعلام. لكن استمرار الضغط أجبرهم على تعديل حكم الإعدام إلى السجن مدى الحياة.
لم تلبث في سجن الجزائر سوى 3 سنوات نُقلت بعدها إلى سجن فرنسي، قضت فيه سنتين، ليطلق سراحها مع بقية رفاقها في إطار المفاوضات بشأن إطلاق سراح الأسرى الجزائريين تدريجياً، إثر توقيع اتفاقيات «إيفيان» وإعلان استقلال الجزائر عام 1962.
ومنذ ذلك الوقت، تحولت بو حيرد إلى مادة دسمة للأعمال الفنية والإبداعية، فكتب فيها الشاعر السوري، نزار قباني، قصيدة قال فيها: «امرأة من قسنطينة.. لم تعرف شفتاها الزينة.. لم تعرف كنساء فرنسا.. بيت اللذة في بيجال».
وفي نهاية عام 1962، ولمناسبة دعوة الرئيس المصري الراحل، جمال عبد الناصر، المجاهدة الجزائرية لزيارة «أم الدنيا»، أقيم حفل فني شَدَت فيه الفنانة وردة الجزائرية، أغنية مخصصة لجميلة. كذلك غنت لها فيروز.
ولعل فيلم «جميلة»، كان من أروع أعمال المخرج العالمي يوسف شاهين، إنتاج عام 1958 في مصر.
صاحبة المتفجرات المتنقلة في حرب التحرير، التي لا تجد إلى جانبها من يعينها على العلاج اليوم، فضّلت بعد انتصار حرب التحرير الشعبية، وطرد المحتلين من الجزائر، أن تبقى بعيدة عن الأضواء والنجومية. لذلك لم تحتمل البقاء أكثر من سنتين في رئاسة اتحاد المرأة الجزائرية، محبّذة أن تعيش حياة البسطاء، رغم كل الضوضاء التي أحاطت بنضالها.
الصورة: جميلة خلال إحدى جلسات المحاكمة في العام 1957
«بقتلنا تلطّخون شرف بلادكم»واجهت جميلة بوحيرد حكم الإعدام عام 1957 بخطاب مقتضَب، جاء فيه:«أيها السادة، إنني أعلم أنكم ستحكمون علي بالإعدام، لأن أولئك الذين تخدمونهم يتشوّقون لرؤية الدماء، ومع ذلك فأنا بريئة. لقد استندتم في محاولتكم إدانتي إلى أقوال فتاة مريضة رفضتم عرضها على طبيب الأمراض العقلية لسبب مفهوم، وإلى محضر تحقيق وضعته الشرطة ورجال المظلات وأخفيتم أصله الحقيقي حتى اليوم، والحقيقة أنني أحب بلدي وأريد له الحرية، ولهذا أؤيد كفاح جبهة التحرير الوطني. لكنكم إذ تقتلوننا لا تنسوا أنكم بهذا تقتلون تقاليد الحرية الفرنسية. ولا تنسوا أنكم بهذا تلطّخون شرف بلادكم وتعرّضون مستقبلها للخطر. ولا تنسوا أنكم لن تنجحوا أبداً في منع الجزائر من الحصول على استقلالها».
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق