معمر عطوي
قصتي مع هذا المخلوق العجيب هي مزيد من التناقضات والمفارقات المُضحكة
والمُزعجة أحياناً، فهو بقدر ما أخاف منه وأتجنب السير قرب مملكته، بقدر ما
أعشقه وأتمنى لو أربيّه وأهتم به وأرافقه في نزهاني ورياضتي الصباحية.
المرة الأولى التي تحول فيها الكلب في حياتي، كطفل، من مخلوق جميل أليف
الى وحش مفترس، كان حين أتانا أحد أقاربي مهشّم الوجه واليدين بسبب كلب لحق
به فوقع أرضاً على الأرض الموحلة وذاق ما ذاق من ألم، علماً بأن الكلب لم
ينقضّ عليه يومها، بل تركه مرمياً وعاد أدراجه.
المرة الثانية كنت لا أزال في السابعة من عمري حين وقعت في النهر، يومها
زاد من طينة خوفي وهلعي من الغرق وجود كلب يسبح في الماء، ولم أذكر كيف
نجوت من هذه الورطة.
كنت دائماً أتحاشى الكلاب الشاردة والفالتة من عقالها، لكني كنت لا أخشى
الكلاب الأليفة خصوصاً المعروفة الصاحب، فلم أتردد يوماً في مداعبتها
والاهتمام بها، وزاد هذا الشعور المُحِبّ تجاه هذا النوع الجميل من
المخلوقات حين كنت أعيش في المانيا لمدة سنتين، كانت كافية لانتزاع بعض
خوفي من الكلاب، خصوصاً ان الكلاب الشاردة هناك لا وجود لها، والكلاب
الشرسة أيضا محكومة “قانونياً” بغطاء للفم لا يمكن لها أن تعض، أما الكلب
الذي ينبح كثيراً فقد أصبحت مقتنعاً بأنه لا يعض.
قد يصح هنا وجود استثناء لتشبيه القادة العرب بهذا النوع من الكلاب التي
تنبح ولا تعض، خصوصاً القادة الذين يزعمون أنهم ضد المشروع الصهيوني في
المنطقة، والذين لم يتحولوا من مرحلة النباح، بل فقط يهددون اسرائيل منذ
عشرات السنين من دون ان ينتقلوا الى مرحلة العض، الاّ في مواجهة شعوبهم.
هنا اعتذر من الكلاب واقول ان هذا التشبيه لا يطال سوى انواع قليلة من هذه
المخلوقات الرائعة.
فالكلب يوصف بأنه وفي لا يخون، لذلك أغضب من أحدهم حين يصف أحد
السياسيين بالكلب؛ هو يهين الكلب هنا ولا يهين السياسي، يجعل من هذا
“الإنسان الوحش” صديقاً وفياً مخلصاً، فيضفي صفات عليه هي ليست منه ولا من
شيم معظم رجال السياسة الذين يشتهرون بالكذب والنفاق والاخلال بالوعود
والمواثيق. هؤلاء الذين لا يفون بجزء من وعودهم الى ما قبل الانتخابات
بأسابيع، والذين لا يحققون للمواطن سوى الألم والحرمان والمذلة، لا يمكن
اعتبارهم بشراَ ولا كلاباً.
ومع ازدياد استيائي من السياسة وأخبارها ونفاقها، أحلم بأن تكون نهاية
حياتي برفقة كلب من نوع الهاسكي السيبيري الموشّح لونه بين الرمادي
والأبيض، فقد ازدادت ثقتي بالكلاب وتراجع خوفي منها، منذ المواجهة الأخيرة
معهم على شاطيء الرملة البيضاء. كان ذلك في العام الماضي حين كنت أمارس
رياضة المشي على رمال الشاطيء في بيروت ليلاً، حين شاهدت نحو خمسة كلاب
يركضون نحوي ويعوون بشدة. فجأة وجدتهم يحاصروني من كل جانب ويستمرون في
النباح. ولم يكن في يدي من حيلة غير رشهم بالرمل على وجوههم، لكن هذه
الطريقة كانت تزيد من شراستهم فيتقدمون أكثر، وبقدرة قادر وجدت نفسي أجلس
بينهم من دون حراك فما كان منهم الا أن قاموا بفسح المجال لي للانسحاب
“التكتيكي” من دون أن يلمسوني. وانتهت المعركة بنجاتي من عضة كلب كانت
دائماً هاجساً مخيفاً، بل كابوساً مسيطراً علي منذ طفولتي.
الآن لا أخشى الكلاب، بل أعشقها وأحترم وفاءها، وأظل يومياً أجري
المقارنات بينها وبين السياسيين، فلا أصل سوى الى قناعة بأن هذا المخلوق
الجميل الأليف اكثر انسانية من أصحاب ربطات العنق والسيارات الفارهة. وأذكر
أني أتيت مرة في ليلة ليلاء متأخراً من عملي في جريدة “الأخبار” البيروتية
الى منزلي في تلال الدامور، لأجد كلبة تتوسل إلي أن أطعمها لأن جرائها
بحاجة الى حليبها، فما كان مني الا ان طبخت ما في ثلاجتي من لحم وأطعمتها
اياه، وقد تعمدت الطبخ لأن اللحم النيئ يجعلها شرسة ومؤذية. منذ ذلك اليوم
ظلت ترافقني هذه الكلبة في رياضتي الصباحية وتتودد الي كأنها تقول شكراً
باستمرار الى ان اختفت من الحي فحزنت عليها.
فتحية لكل كلب حمى انسان من لص أو اعتداء، والى كل كلب أعطى الانسان ما
لا يعطيه ملك أو أمير أو رئيس أو وزير لرعيته، شكراً يا صديقي المخلص.
(برس نت) 25-08-2013
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق