يكاد الاحتفال الذي شهدته العاصمة الليبية طرابلس، أمس، بمناسبة سقوط نظام العقيد معمر القذافي، يشبه احتفالات الذكرى السنوية لإنزال النورماندي في 6 حزيران 1944، الذي نفذته القوات الجوية للحلفاء ضد القوات الألمانية النازية على الشاطئ في شمال فرنسا، قبل أن تزحف على العاصمة الألمانية برلين وتقضي على فلول الجيش النازي عام 1945
معمر عطوي
لم يكتمل المشهد الاحتفالي أمس بالنصر على قوات العقيد معمر القذافي في العاصمة الليبية طرابلس، حيث اقتصر على حضور الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي ورئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، بينما لوحظ غياب الرئيس الأميركي باراك أوباما، ورئيس وزراء تركيا رجب طيب أردوغان، إضافة الى أمير قطر حمد بن خليفة آل ثاني. زعماء يمثلون الدول التي تصدّرت عملية تنفيذ القرار الدولي بحظر جوي فوق ليبيا.
حفل الانتصار بدا مبتوراً إن لم يكن فاشلاً، حيث أعلن رئيس المجلس الانتقالي مصطفى عبد الجليل أن الحديث عن النصر لا يزال مبكراً طالما أن هناك جيوباً أساسية لا تزال تخضع لكتائب العقيد القذافي. الرئيس الفرنسي، الذي حضر برفقة وزير خارجيته آلان جوبيه، يأتي الى طرابلس وعينه على الانتخابات الرئاسية في العام المقبل، لعله أدى قسطه للعلى بحق الناخب الفرنسي فصدق بوعده في انهاء العملية في ليبيا بسرعة (سبعة اشهر على بدء الانتفاضة)، وبدأ يستعد لتوقيع اتفاقات استثمارية وتجارية قد يكون له فيها حصة الأسد، التي سترتد ايجاباً على الاقتصاد الفرنسي، الذي يئن تحت ضغوط الأزمة. ساركوزي بذل جهداً غير طبيعي في محاولته لمحو خطيئة وزيرة خارجية بلاده السابقة ميشيل إليو ماري التي عقدت صفقة مع النظام المخلوع في تونس لمساعدته على قمع الثوار هناك، ولعله بالغ في دعمه للثوار حين خالف القرار 1973 وزوّد الثوار بالأسلحة.
أما كاميرون، الذي أصيب بالإحراج بعدما فاحت رائحة الفساد من حكومته بسبب محاولة سابقة لبيع نظام القذافي أسلحة، من بينها بنادق قناصة قبيل بدء الثورة، فقد أتى الى العاصمة الليبية مصحوباً بقرار حكومي صدر في لندن يقضي بصرف 600 مليون جنيه استرليني (942 مليون دولار أميركي) من الأموال الليبية المجمدة لصالح المجلس الوطني الانتقالي.
لعل «تاريخية» الزيارة كما وُصفت، نابعة من كونها الزيارة الأولى لمسؤولين أجانب رفيعي المستوى الى طرابلس منذ سقوط العاصمة بأيدي الثوار في 23 آب الماضي. إضافة الى أن هاتين الدولتين، الى جانب الولايات المتحدة، كانتا من بين الدول السباقة الى تنفيذ عمليات عسكريّة في ليبيا باسم «فجر الأوديسة» قبل تسليم المهمة لحلف شمال الأطلسي تحت اسم «الحامي الموحد».
في أي حال لقد قدم الزعيمان، الأنكلوسكسوني والفرنكفوني، على نحو احتفالي مدروس جداً لحضور حفلة تقاسم الكعكة النفطية الليبية، وقد صدقهما مضيفهما عبد الجليل القول حين خصّ «الحلفاء والأصدقاء» بأن لهم الأولوية في عقود النفط، وبأن «كل من ساعد ليبيا سيكون له الأولوية في جميع الميادين، لا في قطاع الطاقة والنفط فحسب».
الزعيمان الأوروبيان حرصا على تذكير الليبيين بأن الحاجة إلى حلف الأطلسي لم تنته بعد، ففيما حذّر سيد الإليزيه من خطر القذافي لما «يمتلكه من أموال وذهب»، كرّر سيد الداوننغ ستريت معزوفة التحذير من التشدد الإسلامي. مع ذلك حرص ساركوزي وكاميرون على إضفاء طابع انساني على زيارتهما «التاريخية» بزيارة مستشفى طرابلس ومعايدة بعض جرحى الحرب، وفي تأكيد على عمق العلاقة مع السلطة الانتقالية (المعارضة السابقة) توجها الى بنغازي أيضاً.
«ضربات الأطلسي ستستمر طالما هناك خطر على الليبيين»، هذا ما أكده ساركوزي بحضور كاميرون وعبد الجليل، والرجل الثاني في المجلس الانتقالي محمود جبريل، في مؤتمر صحافي بطرابلس أمس، متظاهراً بأن تدخّل بلاده في الأزمة الليبية جرى من دون مطامع، حيث ليس هناك «عقود أو اتفاقيات قد وقعت مع ليبيا في ما يتعلق بثرواتها.. وكل ما فعلناه لإنقاذ الشعب الليبي، كان علينا فعله من باب تحقيق العدالة» .
أما كاميرون، فقد أدّى دور الشهم الذي يأخذ على عاتقه مساعدة الليبيين في القضاء على القذافي، بقوله «الأمر لم ينته... سنساعدكم على العثور على القذافي وتقديمه إلى العدالة». وأضاف الرجل، الذي شاركت قوات من بلاده في عمليات تجسس واستطلاع على الأراضي الليبية، وفق ما ذكرت تقارير استخبارية عديدة وصحف بريطانية، «نحن على استعداد لتقديم العون، لكن نريد أن نعرف ما هو أهم شيء تريدونه منا... هذه هي اللحظة التي يمكن ان يتحول فيها الربيع العربي إلى الصيف العربي، ونرى الديموقراطية تزحف إلى دول أخرى أيضاً».
المفارقة أن التحذير من بقاء القذافي حراً، الذي بدت الدول الغربية قد اتخذته ذريعة لاستمرار تدخلها وعملياتها في الهضبة الأفريقية، قد دعمه تصريح للمتحدث باسم القذافي موسى ابراهيم، الذي أكد استمرار القذافي في القتال.
أما الحضور الأميركي، ورغم غياب أي مسؤول رفيع عن هذا الحفل «النورماندي»، فقد كان بمثابة المايسترو الذي يدير الأمور من خلف الكواليس. فالمساعد الأقوى لوزيرة الخارجية الأميركية جيفري فيلتمان، الذي أصبح خبيراً في دس أنفه في كل قضية من قضايا الشرق الأوسط، بدأ الحفل على طريقته منذ أول من أمس، حين زار طرابلس واضعاً نقاط التحليل الأميركي على حروف التطورات الميدانية الليبية. فكما كان لفيلتمان ذلك الدور الخفي في مباشرة الهجوم على طرابلس عشية سقوط باب العزيزية، حين اجتمع بالمعارضة السابقة في معقلها ببنغازي، جاء الى طرابلس عشية الاحتفال بالنصر وتقاسم الكعكة الدسمة، ليعطي الإشارة بالتحرك نحو الخطوات التالية.
فيلتمان الذي جاء لينفي أي وجود عسكري لأميركا في ليبيا، دخل من باب حماية الأسلحة غير التقليدية التي لا تزال بحوزة الليبيين، فكما تذرع البريطانيون والفرنسيون بخطر استمرار وجود القذافي وبعض كتائبه طلقاء، وبخطر تنامي التيارات الدينية كمسوّغ لتدخل عسكري أرضي مفترض في أي لحظة على الأراضي الليبية، جاء مساعد وزير الخارجية الأميركية ليتحدث فقط عن «القوات الأميركية الموجودة الآن على الأراضي الليبية(هي) لتوفير الحماية لأفراد البعثة الدبلوماسية وتأمين السفارة الأميركية وحمايتها فقط»، لكن هذا لا يعني أن أي تدخل مستقبلي سيكون من باب «توفير الخبرات الفنية لليبيين والتعاون معهم لحماية مواقع الأسلحة غير التقليدية».
في نفس السياق، كان حديثه عن «صعوبة المهمة» التي أوكلت لقوات الأمن والشرطة، مكملاً للإيحاء بحاجة ليبيا الى خبرات بلاده العسكرية والأمنية، مجدداً التزام واشنطن بـ «مواصلة العمليات العسكرية مع حلف شمال الأطلسي، طالما الأمر يتطلب ذلك لحماية المدنيين الليبيين».
لقد بدا جلياً أن لدى أميركا جدولاً لمحاولة تطويق السلطة الليبية الواعدة بذريعة المساعدة في صد مخاطر القذافي الطليق ومحاربة الإسلاميين المتنامين في المنطقة. لعل ما ذكره مسؤول رفيع في وزارة الدفاع الأميركية من أن الجماعات «الإرهابية» تحاول تأسيس وجود طويل الأمد لها في ليبيا، يصب في هذا الإطار.
هذا التصريح الذي نقلته شبكة «سي إن إن» الأميركية عن المسؤول، يتضمن أن الجماعات «الإرهابية تعمل على نحو آمن على المدى القصير، لكنها تحاول إيجاد موطئ قدم لها وإنشاء شبكة داخلية على المدى البعيد».
لعل التحذيرات التي خففت من دوي الاحتفال بالنصر ترسم مستقبلاً باهتاً للثوار، الذين ربما يجدون أنفسهم أمام اتفاقيات أمنية سرية مع أجهزة الاستخبارات الغربية بحجة مقاتلة القاعدة في دول المغرب الإسلامي والصحراء الكبرى.
ولعله في الآونة الأخيرة كثر الحديث عن قادة الثوار الإسلاميين الذين ساهموا في تحرير طرابلس، فرغم نأي هؤلاء بأنفسهم عن التطرف واعترافهم بإجراء مراجعات لأفكارهم التكفيرية السابقة، لا تزال واشنطن تعتقد بوجود عناصر من هذه الجماعات في المجلس الانتقالي الليبي «على الأرجح» كما قال المسؤول الذي رفض الكشف عن هويته.
يبقى الغائب الأبرز عن احتفال النصر رئيس وزراء تركيا رجب طيب أردوغان، الذي فضل أن يكون مسك ختام الزيارات، حيث سيكون اليوم في طرابلس. وزيارة الزعيم التركي، الأطلسي المسلم العلماني، لها رمزية خاصة لدى الشعب الليبي، فمشاركة أنقرة في عملية «الحامي الموحد» كانت بمثابة الضمانة الإسلامية لعدم خروج العملية عن أهدافها المرسومة في حماية المدنيين، ومنع قصف مواقع مناهضي القذافي بالمدفعية، مع انها خرجت عن أهدافها مرات عديدة. فرغم تردد تركيا في البداية من المشاركة ومحاولتها اعطاء وقت للقذافي للحوار مع المعارضة، عادت لتشارك بقوة لدرجة أنها اصبحت من الدول الصديقة التي خصها عبد الجليل بحظوة في مجال الاستثمارات النفطية والعقود التجارية.
لقد كان رئيس السلطة الانتقالية في ليبيا واضحاً حين وصف أردوغان بأنه «شخصية مختلفة، فمقاربته تجاه المسلمين وردّ فعله على حصار غزة وموقفه من الحرب على لبنان والمجاعة في الصومال، أثارت اهتمام المسلمين الذين يقدّرون أردوغان فهو بتصرفاته، قد أضاف شيئا إلى شجاعة العثمانيين». وفي سياق حديثه عن مصالح تركيا في ليبيا، أكد عبد الجليل، الذي قال إن زيارة اردوغان اليوم الى طرابلس ستكون «تاريخية»، أن «عقود الشركات الليبية الموقعة خلال حكم القذافي ستكون صالحة في الحكم الجديد».
ربما كانت الدولة الاستعمارية السابقة لليبيا أيضاً من الرموز التي أدّت دوراً لافتاً في الأزمة الليبية، من دون أن تكون حاضرة في حفل تقاسم الكعكة. لقد اكتفت إيطاليا بأن يكون سفيرها الجديد الى طرابلس، جوزيبّي بوتشّينو، «أول سفير يحظى بموافقة سلطة المجلس الوطني الانتقالي».
لم تنته الاحتفالات بنصر لم يتم طالما أن السيطرة على جيوب سرت وبني وليد وسبها والقضاء على القذافي ورجاله لا تزال غير محققة، لذلك جاءت صورة احتفالات طرابلس نسخة غير كاملة عن احتفالات النورماندي، التي لا تزال محل مباهاة الحلفاء، رغم مرور اكثر من نصف قرن على حدوثها. مع الإشارة إلى أن ليبيا ليست ألمانيا.
معمر عطوي
لم يكتمل المشهد الاحتفالي أمس بالنصر على قوات العقيد معمر القذافي في العاصمة الليبية طرابلس، حيث اقتصر على حضور الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي ورئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، بينما لوحظ غياب الرئيس الأميركي باراك أوباما، ورئيس وزراء تركيا رجب طيب أردوغان، إضافة الى أمير قطر حمد بن خليفة آل ثاني. زعماء يمثلون الدول التي تصدّرت عملية تنفيذ القرار الدولي بحظر جوي فوق ليبيا.
حفل الانتصار بدا مبتوراً إن لم يكن فاشلاً، حيث أعلن رئيس المجلس الانتقالي مصطفى عبد الجليل أن الحديث عن النصر لا يزال مبكراً طالما أن هناك جيوباً أساسية لا تزال تخضع لكتائب العقيد القذافي. الرئيس الفرنسي، الذي حضر برفقة وزير خارجيته آلان جوبيه، يأتي الى طرابلس وعينه على الانتخابات الرئاسية في العام المقبل، لعله أدى قسطه للعلى بحق الناخب الفرنسي فصدق بوعده في انهاء العملية في ليبيا بسرعة (سبعة اشهر على بدء الانتفاضة)، وبدأ يستعد لتوقيع اتفاقات استثمارية وتجارية قد يكون له فيها حصة الأسد، التي سترتد ايجاباً على الاقتصاد الفرنسي، الذي يئن تحت ضغوط الأزمة. ساركوزي بذل جهداً غير طبيعي في محاولته لمحو خطيئة وزيرة خارجية بلاده السابقة ميشيل إليو ماري التي عقدت صفقة مع النظام المخلوع في تونس لمساعدته على قمع الثوار هناك، ولعله بالغ في دعمه للثوار حين خالف القرار 1973 وزوّد الثوار بالأسلحة.
أما كاميرون، الذي أصيب بالإحراج بعدما فاحت رائحة الفساد من حكومته بسبب محاولة سابقة لبيع نظام القذافي أسلحة، من بينها بنادق قناصة قبيل بدء الثورة، فقد أتى الى العاصمة الليبية مصحوباً بقرار حكومي صدر في لندن يقضي بصرف 600 مليون جنيه استرليني (942 مليون دولار أميركي) من الأموال الليبية المجمدة لصالح المجلس الوطني الانتقالي.
لعل «تاريخية» الزيارة كما وُصفت، نابعة من كونها الزيارة الأولى لمسؤولين أجانب رفيعي المستوى الى طرابلس منذ سقوط العاصمة بأيدي الثوار في 23 آب الماضي. إضافة الى أن هاتين الدولتين، الى جانب الولايات المتحدة، كانتا من بين الدول السباقة الى تنفيذ عمليات عسكريّة في ليبيا باسم «فجر الأوديسة» قبل تسليم المهمة لحلف شمال الأطلسي تحت اسم «الحامي الموحد».
في أي حال لقد قدم الزعيمان، الأنكلوسكسوني والفرنكفوني، على نحو احتفالي مدروس جداً لحضور حفلة تقاسم الكعكة النفطية الليبية، وقد صدقهما مضيفهما عبد الجليل القول حين خصّ «الحلفاء والأصدقاء» بأن لهم الأولوية في عقود النفط، وبأن «كل من ساعد ليبيا سيكون له الأولوية في جميع الميادين، لا في قطاع الطاقة والنفط فحسب».
الزعيمان الأوروبيان حرصا على تذكير الليبيين بأن الحاجة إلى حلف الأطلسي لم تنته بعد، ففيما حذّر سيد الإليزيه من خطر القذافي لما «يمتلكه من أموال وذهب»، كرّر سيد الداوننغ ستريت معزوفة التحذير من التشدد الإسلامي. مع ذلك حرص ساركوزي وكاميرون على إضفاء طابع انساني على زيارتهما «التاريخية» بزيارة مستشفى طرابلس ومعايدة بعض جرحى الحرب، وفي تأكيد على عمق العلاقة مع السلطة الانتقالية (المعارضة السابقة) توجها الى بنغازي أيضاً.
«ضربات الأطلسي ستستمر طالما هناك خطر على الليبيين»، هذا ما أكده ساركوزي بحضور كاميرون وعبد الجليل، والرجل الثاني في المجلس الانتقالي محمود جبريل، في مؤتمر صحافي بطرابلس أمس، متظاهراً بأن تدخّل بلاده في الأزمة الليبية جرى من دون مطامع، حيث ليس هناك «عقود أو اتفاقيات قد وقعت مع ليبيا في ما يتعلق بثرواتها.. وكل ما فعلناه لإنقاذ الشعب الليبي، كان علينا فعله من باب تحقيق العدالة» .
أما كاميرون، فقد أدّى دور الشهم الذي يأخذ على عاتقه مساعدة الليبيين في القضاء على القذافي، بقوله «الأمر لم ينته... سنساعدكم على العثور على القذافي وتقديمه إلى العدالة». وأضاف الرجل، الذي شاركت قوات من بلاده في عمليات تجسس واستطلاع على الأراضي الليبية، وفق ما ذكرت تقارير استخبارية عديدة وصحف بريطانية، «نحن على استعداد لتقديم العون، لكن نريد أن نعرف ما هو أهم شيء تريدونه منا... هذه هي اللحظة التي يمكن ان يتحول فيها الربيع العربي إلى الصيف العربي، ونرى الديموقراطية تزحف إلى دول أخرى أيضاً».
المفارقة أن التحذير من بقاء القذافي حراً، الذي بدت الدول الغربية قد اتخذته ذريعة لاستمرار تدخلها وعملياتها في الهضبة الأفريقية، قد دعمه تصريح للمتحدث باسم القذافي موسى ابراهيم، الذي أكد استمرار القذافي في القتال.
أما الحضور الأميركي، ورغم غياب أي مسؤول رفيع عن هذا الحفل «النورماندي»، فقد كان بمثابة المايسترو الذي يدير الأمور من خلف الكواليس. فالمساعد الأقوى لوزيرة الخارجية الأميركية جيفري فيلتمان، الذي أصبح خبيراً في دس أنفه في كل قضية من قضايا الشرق الأوسط، بدأ الحفل على طريقته منذ أول من أمس، حين زار طرابلس واضعاً نقاط التحليل الأميركي على حروف التطورات الميدانية الليبية. فكما كان لفيلتمان ذلك الدور الخفي في مباشرة الهجوم على طرابلس عشية سقوط باب العزيزية، حين اجتمع بالمعارضة السابقة في معقلها ببنغازي، جاء الى طرابلس عشية الاحتفال بالنصر وتقاسم الكعكة الدسمة، ليعطي الإشارة بالتحرك نحو الخطوات التالية.
فيلتمان الذي جاء لينفي أي وجود عسكري لأميركا في ليبيا، دخل من باب حماية الأسلحة غير التقليدية التي لا تزال بحوزة الليبيين، فكما تذرع البريطانيون والفرنسيون بخطر استمرار وجود القذافي وبعض كتائبه طلقاء، وبخطر تنامي التيارات الدينية كمسوّغ لتدخل عسكري أرضي مفترض في أي لحظة على الأراضي الليبية، جاء مساعد وزير الخارجية الأميركية ليتحدث فقط عن «القوات الأميركية الموجودة الآن على الأراضي الليبية(هي) لتوفير الحماية لأفراد البعثة الدبلوماسية وتأمين السفارة الأميركية وحمايتها فقط»، لكن هذا لا يعني أن أي تدخل مستقبلي سيكون من باب «توفير الخبرات الفنية لليبيين والتعاون معهم لحماية مواقع الأسلحة غير التقليدية».
في نفس السياق، كان حديثه عن «صعوبة المهمة» التي أوكلت لقوات الأمن والشرطة، مكملاً للإيحاء بحاجة ليبيا الى خبرات بلاده العسكرية والأمنية، مجدداً التزام واشنطن بـ «مواصلة العمليات العسكرية مع حلف شمال الأطلسي، طالما الأمر يتطلب ذلك لحماية المدنيين الليبيين».
لقد بدا جلياً أن لدى أميركا جدولاً لمحاولة تطويق السلطة الليبية الواعدة بذريعة المساعدة في صد مخاطر القذافي الطليق ومحاربة الإسلاميين المتنامين في المنطقة. لعل ما ذكره مسؤول رفيع في وزارة الدفاع الأميركية من أن الجماعات «الإرهابية» تحاول تأسيس وجود طويل الأمد لها في ليبيا، يصب في هذا الإطار.
هذا التصريح الذي نقلته شبكة «سي إن إن» الأميركية عن المسؤول، يتضمن أن الجماعات «الإرهابية تعمل على نحو آمن على المدى القصير، لكنها تحاول إيجاد موطئ قدم لها وإنشاء شبكة داخلية على المدى البعيد».
لعل التحذيرات التي خففت من دوي الاحتفال بالنصر ترسم مستقبلاً باهتاً للثوار، الذين ربما يجدون أنفسهم أمام اتفاقيات أمنية سرية مع أجهزة الاستخبارات الغربية بحجة مقاتلة القاعدة في دول المغرب الإسلامي والصحراء الكبرى.
ولعله في الآونة الأخيرة كثر الحديث عن قادة الثوار الإسلاميين الذين ساهموا في تحرير طرابلس، فرغم نأي هؤلاء بأنفسهم عن التطرف واعترافهم بإجراء مراجعات لأفكارهم التكفيرية السابقة، لا تزال واشنطن تعتقد بوجود عناصر من هذه الجماعات في المجلس الانتقالي الليبي «على الأرجح» كما قال المسؤول الذي رفض الكشف عن هويته.
يبقى الغائب الأبرز عن احتفال النصر رئيس وزراء تركيا رجب طيب أردوغان، الذي فضل أن يكون مسك ختام الزيارات، حيث سيكون اليوم في طرابلس. وزيارة الزعيم التركي، الأطلسي المسلم العلماني، لها رمزية خاصة لدى الشعب الليبي، فمشاركة أنقرة في عملية «الحامي الموحد» كانت بمثابة الضمانة الإسلامية لعدم خروج العملية عن أهدافها المرسومة في حماية المدنيين، ومنع قصف مواقع مناهضي القذافي بالمدفعية، مع انها خرجت عن أهدافها مرات عديدة. فرغم تردد تركيا في البداية من المشاركة ومحاولتها اعطاء وقت للقذافي للحوار مع المعارضة، عادت لتشارك بقوة لدرجة أنها اصبحت من الدول الصديقة التي خصها عبد الجليل بحظوة في مجال الاستثمارات النفطية والعقود التجارية.
لقد كان رئيس السلطة الانتقالية في ليبيا واضحاً حين وصف أردوغان بأنه «شخصية مختلفة، فمقاربته تجاه المسلمين وردّ فعله على حصار غزة وموقفه من الحرب على لبنان والمجاعة في الصومال، أثارت اهتمام المسلمين الذين يقدّرون أردوغان فهو بتصرفاته، قد أضاف شيئا إلى شجاعة العثمانيين». وفي سياق حديثه عن مصالح تركيا في ليبيا، أكد عبد الجليل، الذي قال إن زيارة اردوغان اليوم الى طرابلس ستكون «تاريخية»، أن «عقود الشركات الليبية الموقعة خلال حكم القذافي ستكون صالحة في الحكم الجديد».
ربما كانت الدولة الاستعمارية السابقة لليبيا أيضاً من الرموز التي أدّت دوراً لافتاً في الأزمة الليبية، من دون أن تكون حاضرة في حفل تقاسم الكعكة. لقد اكتفت إيطاليا بأن يكون سفيرها الجديد الى طرابلس، جوزيبّي بوتشّينو، «أول سفير يحظى بموافقة سلطة المجلس الوطني الانتقالي».
لم تنته الاحتفالات بنصر لم يتم طالما أن السيطرة على جيوب سرت وبني وليد وسبها والقضاء على القذافي ورجاله لا تزال غير محققة، لذلك جاءت صورة احتفالات طرابلس نسخة غير كاملة عن احتفالات النورماندي، التي لا تزال محل مباهاة الحلفاء، رغم مرور اكثر من نصف قرن على حدوثها. مع الإشارة إلى أن ليبيا ليست ألمانيا.