معمر عطوي
لا يمكن اختصار الأزمة المصرية بالحديث عن «انقلاب عسكري» على
«الشرعية» كما لا يمكن أن يتوقف الأمر كما يقتنع معارضو مرسي بان السبب هو «السعي
لأسلمة الدولة»، فالحيثيات التي يتضمنها ملف القضية منذ حلول محمد مرسي في قصر
الاتحادية قبل نحو سنة، تحمل أكثر من تفسير وتأويل بما يصب في مصلحة التحليل القائل
«الهدف زرع الفوضى في أرض الكنانة».
منذ العام 1928 تاريخ نشوء الإخوان المسلمين على يد الداعية الشيخ حسن البنا، والجماعة تسعى للوصول الى السلطة، رغم ما روّجه مرشدها الثاني بعد البنا، الشيخ حسن الهضيبي (1949 – 1973)، في كتابه «دعاة لا قضاة»عن هدف الدعوة وعدم التدخل في أمور المجتمع.
ورغم ما كان يتسرّب عن مجالس الإخوان من أنهم يفضّلون العمل التربوي على العمل السياسي ريثما تنضج الأمور،
لعبت الجماعة أدواراً سياسية تماهت تماماً مع مقولة البنا بأنهم «ليسوا مجرد جماعة دعوية دينية فقط ولكنهم أيضاً هيئة سياسية نتيجة لفهمهم العام للإسلام، وأن مشاركتهم السياسية تأتي من منطلق الإصلاح في الأمة وتطبيق تعاليم الإسلام وأحكامه».
وربما كانت ذروة التصعيد مع السلطة الملكية في مصر عام 1948 مع اغتيال رئيس الوزراء محمود النقراشي، الذي لاحق عناصرها وأعضائها العائدين من القتال ضد الصهاينة في فلسطين بتهمة «التحريض والعمل ضد أمن الدولة».
يبدو أن الجماعة الإسلامية قد دخلت في منعطفات عسيرة قبل مخاضها الأخير الذي ساقها إلى كرسي الحكم بعد نحو ما يقرب من قرن من التخبط والسجون والحظر السياسي والإعلامي والملاحقات الأمنية، سيما بعد حادثة المنشية التي حاول خلالها عناصر من الإخوان اغتيال الرئيس جمال عبد الناصر. مع العلم أن قيادة الجماعة قد ساعدت الضباط الأحرار عام 1952 في الانقلاب على الملك فاروق(1920-1965) عبر الضابط انور السادات الرئيس الراحل الذي أرسى أول علاقات دبلوماسية مع العدو الاسرائيلي.
لعل أول المنعطفات الفكرية كانت مع سيد قطب ابراهيم حسين الشاذلي ( 1906 ـ 1966)، الذي سُجن ثم اعدِم على ايدي السلطات في عهد عبد الناصر. قطب الذي تحول من أديب مرهف الحس الى منظّر متشدد أرسى للجماعة فكراً جديداً نسخ معظم ما جاء به الشيخ البنا من أفكار مرحلية للتغيير نحو الدولة الإسلامية، مختصراً القضية بمجتمع سلم ومجتمع حرب، (مسلمون وكفار) وسمى مجتمع كل من لا ينتمي الى الإخوان وفكرهم السياسي بالمجتمع الجاهلي، فكان فكر قطب فكر سجون في الواقع شكل ردة فعل على استبداد النظام في تعامله مع التيارات المعارضة.
لكن السؤال الأهم هو لماذا حاول الإخوان اغتيال رئيس قومي عربي وزّع الأراضي على الفقراء وأمّم قناة السويس وحمل لواء محاربة العدو الصهيوني ودعم فصائل الثورة الفلسطينية وتمتع بشعبية كبيرة ليس فقط على مصر بل على مستوى العالم العربي؟
من دون الدخول في أتون الجدل حول أسبقية البيضة على الدجاجة أو العكس، ظهر سؤال آخر حول علاقة السادات بالإخوان خلال فترة حكمه واستخدامهم في حربه ضد اليسار والشيوعيين، علماً أن الرئيس الراحل كان أول رئيس عربي يقوم بتوقيع اتفاقية تسوية مُذلة مع العدو التاريخي للأمة، وأول رئيس عربي يخطب في الكنيست الاسرائيلي، فكيف يمكن جماعة تقوم دعائمها على الجهاد من أجل تحرير فلسطين على موالاة رئيس خائن للأمة بحجة مقاتلة الشيوعيين؟ الواضح أنهم كانوا وقود حرب باردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي آنذاك. كما تحولوا اليوم الى وقود حرب باردة أخرى بين أميركا وإيران.
الواضح أن الإخوان لم يكونوا تنظيماً جهادياً لا ضد الحاكم الخائن ولا ضد اسرائيل، هذا ما تبين بعدما ظهر ان قاتل السادات خالد الاسلامبولي، كان عضواً في مجموعة انشقت عن الإخوان تحت إسم «منظمة الجهاد الاسلامي»، في عملية اعتراض واضح على نهج الاخوان السلمي والتربوي. أمر تكرر في فلسطين مع حركة الجهاد الاسلامي التي انشقت عن حركة الاخوان المسلمين (حماس لاحقاً) وتصدرت العمليات العسكرية ضد جيش العدو، بينما كان الاخوان يركزون على التربية.
رغم كل ما عانته الجماعة في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك من حظر لحزبها السياسي ونشاطها الاعلامي وملاحقات طالت قياداتها عند كل استحقاق انتخابي للحد من حضورها الشعبي والسياسي، حافظ الاخوان المسلمون على تقدّمهم في المشهد السياسي لدرجة أنهم استطاعوا مصادرة ثورة 25 يناير من أصحابها غير المؤدلجين، وذلك في صناديق الانتخاب.
ووصل محمد مرسي أول رئيس إخواني في تاريخ مصر الى السلطة في 30 حزيران 2012، بمباركة أميركية معطياً ضمانات لاسرائيل بالحفاظ على معاهدة كمب ديفد المشؤومة، وبادئاً عهده برسالة بروتوكولية الى نظيره الصهيوني شمعون بيريز مذيلاً إياها بالصديق المخلص.
الأنكى من ذلك أن الرئيس الإسلامي الذي وعد شعبه بأنه لن يطعمه من أموال الربا، قد بدأ عهده بالتفاوض مع البنك الدولي حول قرض يصل الى 5 مليارات دولار أميركي، مطمئناً الدوائر المالية والسياسية الأجنبية بأنه سيعتمد نظاماً اقتصادياً ليبرالياً جديداً يناسب السياسة الرأسمالية القائمة على الريوع والمضاربة والتي تهمل العامل الانتاجي. وهنا بيت القصيد.
وكان يمكن لسي مرسي الاحتفاظ بشعبيته وحضوره فيما لو لم يُصاب بلوثة الإسلاميين الأتراك، الذين روجوا لنموذجهم داخل حركات الاسلام السياسي «الإخونجية» في العالم العربي، فبات كل حزب اخواني يحمل في إسمه كلمة «عدالة» تيمناً بحزب العدالة والتنمية التركي.
وظن مرسي وجماعته أنهم قادرون على فعل ما قام بها إسلاميو تركيا من اختراق لمؤسسات الدولة والحد من سلطة الجيش والسيطرة على الدولة العميقة. وظنوا ان ما قام به الأتراك منذ عدنان مندريس في الستينات من القرن الماضي مروراً بنجم الدين أربكان وحزبه (الرفاه) وصولاً الى رجب طيب اردوغان، اي خلال ستين سنة، يستطيعون في مصر انجازه خلال سنة!
هكذا خسر الإخوان الشارع الذي لا يهمه تحكيم الشريعة ولا سيطرة الإسلام السياسي على مفاصل الدولة ولا محاربة سوريا وإيران، ولا المزايدة على الشيعة بخطاب ساذج (في طهران) يشبه خطابات أئمة المساجد بدل خطابات رؤساء الدول.
الرئيس الذي لم يستطع ضبط يده تعبث بعضوه الذكري خلال استقباله رئيسة وزراء استراليا جوليا جيلار، جنى على نفسه كما جنت على نفسها براقش، بتصديق واشنطن ووكيلتيها قطر وتركيا بأنها تدعم الإخوان في المنطقة العربية ضد المد الايراني والشيعي، فأتم محنة الإخوان المسلمين في آخر فصل من فصولها في السلطة ووضع مصر على حافة الهاوية باسم «الشرعية».
(برس نت) 18-تموز 2013
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق