أولادنا بلا أدب

معمر عطوي

يستغرق اللبنانيون جلّ وقتهم في الحديث عن السياسة والدين ويزايدون على بعضهم في التحليل السياسي الذي يصب في أكثر الأحيان في مصلحة النزعة المذهبية الضيقة أو الحزبية المُتحجّرة، لكن جلّهم للأسف لا يهتم بتربية أولاده وتعليمهم آداب السلوك والتصرف الذي يجعل منهم جيلاً متحضّراً.

ففي لبنان، عليك أن تزور مقهى لخدمات الانترنت أو استراحة لنفث سموم النراجيل في الهواء، لتكتشف مدى قلة الأدب التي يعاني منها جيلنا، إن كان على مستوى التخاطب البذئ فيما بينهم، أو على صعيد النزعة المذهبية المتوحشة التي تخرج كالنصال حاملة كل أنواع الشتائم لرجال دين أو لسياسيين في الطرف الآخر من المعسكرين المُتنازعين، وأكثر من ذلك تلك الشتائم التي تشمل طائفة معينة أو أهل مذهب معين.

اللافت أن هذه الظاهرة ليست حكراً على أبناء حي أو حزب أو طائفة أو منطقة، بل هي ذهنية لبنانية خالصة تمتد من نقطة رأس الناقورة على الحدود مع فلسطين المُحتلة في الجنوب وتصل الى معبر العريضة على الحدود مع سوريا في الشمال، مروراً طبعاً بالبقاع وجبل لبنان ومنطقة الساحل.

وإذا أراد المرء إجراء دراسة مُعمّقة في ذهنية الشبان اللبنانيين والمراهقين، فما عليه إلاّ دخول عالمهم من بوابة هواتفهم المحمولة، ففي صفحات التواصل الاجتماعي لا تزال الشتائم المذهبية والحزبية ملطّفة قياساً بما انتجه عباقرة نشر التخلف من وصلات مصورة ومسموعة تحمل أشد العبارات إيلاماً وهتكاً للحُرمات وخدشاً للحياء والقائمة بمعظمها على اساس حرب مذهبية افتراضية.

نحن أمام جيل من النازيين الجدد أصبح يشكل قاعدة الهرم الاجتماعي في مجتمعاتنا، على عكس المجتمعات الأوروبية التي أصبح فيها المسنون قاعدة الهرم الاجتماعي.

بهذه الذهنية يتعاطى الجيل الجديد من اللبنانيين مع بعضه البعض، وبالروحية الانعزالية تنطلق التصنيفات بين من هو كافر ومن هو مشرك ومن هو زنديق ومن هو عميل وخائن ومن هو مجرم وسارق وفاسد، في حين يتبين أن المشكلة لا علاقة لها بروح التدين بقدر ما هي وليدة حالات مُتمذهبة لا تدرك أصلاً سبب الخلاف الديني بين مذهبين أو طائفتين، انما تكرر ما يقوله المشايخ والسياد والمطارنة والخوارنة في محاضراتهم المسمومة التي يطلقونها في مجالسهم بحجة حماية الجماعة من الذوبان مع الجماعات الأخرى. في حين نجد أن الدول المُتحضرة والديموقراطية تعمل ليلاً نهاراً على تعزيز الاندماج بين الثقافات والأديان والقوميات ضمن ذهنية وطنية واحدة قائمة على الاحترام المُتبادل والاعتراف بالآخر وكيانه ووجوده وحقه في أن يطرح ما يشاء من أفكار ومعتقدات بشرط عدم المساس بغيره أو فرض خياراته على غيره بالقوة.

طبعاً، الفارق شاسع بين أمة العرب التي لا تعرف القراءة الا نادراً، وبين أمم أخرى يُعتبر مشهد القراءة في وسائل نقلها العامة وحدائقها جزءاً من مشهد عام تعتاد العين على رؤيته.

أما أولادنا فلا يقرأون، واذا قرأوا فبالكاد يقرأون مناهجهم وكتبهم المدرسية التي بغالبها تسيطر عليها جمعيات مذهبية وطائفية متعصبة تنشر فكر “الملة الواحدة” والـ “فرقة الناجية” و”أهل الجنة وأهل النار” وثقافة الغيرية “النحن والهم”.

حقاً إن المُتابع لحركة وتصرفات الشريحة الأكبر من الجيل اللبناني الصاعد، يُدرك كم يعيش هذا الجيل ضياعاً بسبب جهل الأهل وأولياء الأمور، الذين يجعلون السياسة همهم اليومي والنزعة المذهبية ديدنهم، فيخرج أولادهم على شاكلتهم متوتري الذهنية غير أسوياء من جهة الصحة النفسية، ولا همّ لهم الا معركة مُنتظرة يقضي فيها المسلمون على المسيحيين أوالسنة على الشيعة أو بالعكس، ويصبح المجتمع مجتمع اللون الواحد والعقيدة الواحدة. مجتمع يعتبرونه قمة المُرتجى.

أما قضايا احترام الآخرين وقراءة التاريخ قراءة موضوعية استيعابية غير متوترة وتعلّم آداب السلوك مع الجيران وحُسن التصرف في المجتمع والحفاظ على البيئة والصحة العامة والأخلاق الحميدة وحفظ أرواح الآخرين باحترام القانون وقوانين السلامة العامة فتأتي هذه كلها في الدرك الاسفل من التربية.

أولادنا بالفعل بلا أدب الا من رحم ربي، ومجتمعاتنا آيلة للسقوط عند كل منعطف من منعطفات الجنون السياسي المشحون بآيات القداسة وترهات الصفحات الصفراء. المسألة تحتاج الى القليل من تواضع الأهل فلا يحشرون أنوفهم فيما لا يفهمه حتى رجال السياسة أنفسهم من مخططات وألاعيب ومؤامرات، بل عليهم النظر الى فلذات أكبادهم بنظرة تعمم الايجابية والمحبة والاحترام وليس بنظرة إبراهيم الباحث عن اسماعيل للتضحية به على مذبح الرب.

"برس نت" 14 ايلول 2012