ثمة جدل واسع يدور اليوم حول الاجتهاد في النص الديني وموقع العقل من هذا الاجتهاد. جدل حاد قد يصل إلى حد التكفير أو التجهيل أو تبخيس مقولات مشروعة حول دور العقل في اختيار ما يناسب من مصادر التشريع في الاسلام. وكل الهدف من ذلك هو جعل النص الديني فضاءً مفتوحاً لكل من يمكنه البحث والتمحيص وصولاً إلى التفسير والتأويل والاستبصار.
في هذا السياق، جاء مقال كاتب هذه السطور، في جريدة "الأخبار" العدد الصادر في 8 تشرين الأول الماضي، تحت عنوان "فتاوى جلب المفاسد والفريضة الغائبة"، ليؤكد من منطلق عقلي بحت، أن لا علاقة له بتهويمات الآيديولوجيا الدينية، ولا بأدوات اللاهوت. وبأن فتاوى رجال الدين باتت عقيمة ولا تصل إلى درجة الاجتهاد العقلي، طالما أنها لا تتعدى استخدام القياس كمصدر تشريع.
معمر عطوي
أجليت في هذا المقال الغبار عن حقيقة، أن الشيعة يستخدمون العقل بينما يستخدم السنة القياس، ما يعني أن الاجتهاد عند الشيعة متقدّم، بالاشارة إلى ما استطاع الشيعة أن يتقدّموا فيه اجتهاداً. مع العلم أن هؤلاء مثل أولئك، أسرى النص وأحاديث النبي وأهل بيته، ولا علاقة لاجتهاد معظم (حتى لا أًُتّهم بالتعميم) علمائهم، بتطوير المجتمع ولا بآليات تحديد العلاقة مع الآخر في المجتمع المتنوع.
ما يعني أن "جلب المصالح ودرء المفاسد" كقاعدة شرعية يقوم عليها أساس الدين، قد انعكست إلى "جلب المفاسد ودرء المصالح". عنيت بتلك الفتاوى سواء التي تصدر عن علماء من أهل السنة أو أقرانهم من الشيعة، والتي لا تصب إلاّ في رفد وتعزيز الفتنة المذهبية. وثمة فتاوى واجتهادات "جديدة" لا تلبّي سوى غرائز بعض رجال الدين وشهواتهم، فيما تقوم تلك الفتاوى الخشبية التي لا تزال تعجّ بها "الرسائل العملية" للمكلفين والفتاوى المتنوعة عن علماء المسلمين، بتوسيع الهوة بين أبناء المجتمع الواحد، من خلال أساليب تربوية بغيضة، ينهل منها الأطفال والشبان في المساجد والمدارس الدينية. لعلّ أخطرها تلك التي تربّي الناشئة على مقولات تمييزية فوقية مثل تأكيد "سلامة العقيدة" و"نقاوة المذهب" على طريقة نقاوة العرق في العقيدة النازية.
لقد حفّز مقالي في جريدة الأخبار عدداً من الموافقين والمعارضين للرد من خلال الجريدة نفسها أو موقعها على الانترنت. فكان أن انبرى إليّ أحد الأساتذة "الإكليروس"، ليتهمني بأني جاهل في تاريخ الفقه الشيعي، واضعاً حدوداً لمن يريد أن يستفيد من النص الديني في تطوير المجتمع، بقوله إن ما سقته من أفكار حول الاجتهاد المطلوب، هو "نقد للاجتهاد الفقهي من غير أهله". واستشهد الأستاذ الفاضل بالمنهج الظاهراتي مع العلم أن هذه المناهج لا تستخدم في الحوزات الدينية والمدارس الأزهرية إلاّ من منطلق التعريف بمناهج الآخرين أو من منطلق ترف فكري. خصوصاً أن أرباب المذهب الظاهري هم من الوجوديين والملحدين في معظمهم.
وإذ يعترف الأستاذ االفاضل بأن "الإفتاء يشهد تفلتاً في بعض الساحات الإسلامية ويترك تأثيرات سلبية على الشأن الديني والاجتماعي والسياسي"، يشير ألى أني عممت في مقالتي. بيد أني في الحقيقة، لم أعمّم،على الغالب. بل أشرت إلى فتاوى للسيد محمد حسين فضل الله والسيد محمد باقر الصدر، كنماذج ينبغي تمثلها للتقريب بين المذاهب الإسلامية أو الأديان أو حتى البشر في ظل البنى العلائقية الإنسانية.
ويبدو أن الاجتهاد الديني بات مسألة غيبية ما ورائية، بامتياز، ولا علاقة للعقل بها. هذا ما تؤكده الفتاوى السخيفة التي تزكّي الصلاة والصيام والفرائض كل من جهته، على طريقة مقبول أو غير مقبول. وبات كل فقيه هو الذي يحدّد ما يقبله الله ولا يقبله الله من الفرائض والسلوكيات وكأنه الوكيل المعتمد للملكوت على الأرض.
الدين في خدمة المجتمع وليس العكس
أمّا عن مسايرة الأمزجة، فالموضوع لا علاقة له بالمسايرة، إنما هو دعوة من خارج الحقل الديني، لاعتماد مصادر التشريع على اختلافها، بغية فهم المجتمع فهماً صحيحاً والتعاطي معه من منطلق السير به نحو الأفضل. وهنا أؤكد أن الدين هو في خدمة المجتمع وليس المجتمع في خدمة الدين.
إذن هي دعوة لجعل النص الديني فضاءً مفتوحاً أمام العقل، الذي لا يزال مُصادراً في الحوزات الدينية والمدارس الفقهية السنيّة. مع العلم أن ما سيق في التراث الإسلامي من مصادر تشريع عديدة، مثل العُرف والمصالح المرسلة والاستحسان وشرع من قبلنا الخ.. يجعل قضية الاجتهاد متحرّكة بشكل يخدم المجتمع ويترك هامشاً من أجل إعادة إنتاج التراث الديني، وفق رؤية جديدة، وعلى ضوء التحولات الهائلة التي شهدها ويشهدها العالم كل ساعة.
وهمُ احتكار النص وتفسيره
لقد استفزّت مقولاتي حول الاجتهاد - وأنا أتحدث من خارج هذه المنظومة الدينية كلياً- العديد ممن شحذوا سيوف الدفاع عن المذهب والعقيدة، على أساس أنها حكر عليهم وحدهم. إذ أن هناك مشكلة تقليدية لا تزال لدى المؤسسة الدينية، سواء أكانت شيعية أم سنية أو حتى لدى الطوائف غير الاسلامية. عنيت احتكار النص من قبل مجموعة معينة تدّعي العلم والتبصّر بينما هي أسيرة العقيدة الدوغمائية. في الواقع هي غير مبصرة لما يجري حولها. فالنص الديني هو تراث بشري لا يجوز احتكاره أو تعيين من ينبغي أن "يكون من أهله"، وهو ملك للأمة تستفيد منه حيث ينبغي أن يكون ذلك سبباً للتقدم والتطور وتعزيز فكرة الوئام والتعاطي بعيداً عن لغة التكاذب والمجاملات الدبلوماسية المعتمدة بين رجال الدين من الطوائف المتعددة (نموذج لبنان لا يزال حاضراً بقوة).
لقد طرح المرجع الديني الإسلامي، السيد محمد حسين فضل الله، في حديث لـ "الأخبار" بداية شهر رمضان الماضي، العديد من المسائل غير المسبوقة، مثل جواز إفطار الصائمين عند مغيب الشمس، حسبما يرى أهل السنّة، بدلاً من الانتظار نحو ربع ساعة من الوقت كما يفعل الشيعة، وقد تكون أهمّها رؤيته لهلال رمضان وموعد بدء الصيام من خلال حسابات فلكية تثبت الوقت الدقيق لميلاد القمر في أول الشهر الهجري وآخره.
فما الذي يمنع غيره من العلماء والمجتهدين من البحث عن فتاوى تقرّب ولا تبعّد، طالما أن الأصل في الأشياء الإباحة، وطالما أن جلب المصالح هو أساس وجود الدين في الواقع. وطالما أن هذا الخلاف الساذج يسيء إلى صورة المسلمين ولا يخدم رسالتهم. لكن ما يجري هو أن الاجتهاد الديني بات محكوماً بخلفيات سياسية وأخرى ما ورائية، أسهمت إلى حدّ كبير في تكوين العقل الجمعي، بما يتلاءم مع مرحلة تديّن جارفة، أصبح فيها معيار القول للفقيه والقوانين الإلهية، أكثر منه للقوانين الوضعية المدنية.
الفتاوى الخليجية
ويأتي من يعلّق على نقدي لبعض فتاوى علماء الخليج في تشريع زواج المسيار الذي أسميته "محطة جغرافية لإفراغ الشهوة"، "أمّا فتاوى الخليج، فهي لا تُمتّ إلى الإسلام بأي صلة". وهذا نموذج عن التربية الدينية المذهبية والمناطقية بل العنصرية التي يبثها رجال الدين في عقول مريديهم، فيتم تعميم الأحكام حول أمة بحالها وتبخيس ما لديها، فقط لخصومة سياسية أو اختلاف مذهبي معها. وفي ذلك ذهنية فوقية عنصرية لا علاقة لها بالأخلاق ولا بالقيم التي يدّعي المتدينون حملها.
وهناك من يدّعي أن حديثي عن أنواع الزواج في مقالتي الآنفة الذكر في "الاخبار"، غير صحيح بالصيغة التي ذكرت، لأنّه هناك حيثيّات وظروف لتلك الزيجات لا يمكن للكاتب الموضوعيّ أن يتجاهلها، مع أني كنت واضحاً في نقدي لهذه الزيجات والسبب الذي يقف خلف النقد. وفي هذا الموضوع ركزت على عدم تحويل الانسان ذكراً كان أم أنثى الى كائن غرائزي لا يهدف إلا الى المتعة الجسدية بعيداً عن المشاعر والأحاسيس التي يُفترض ان تحكم العلاقة بين الجنسين في هذا السياق. وهنا أؤكد أن شرعية الزواج هي الحب المتبادل والاحترام المتبادل لا الزواج المنقطع ولا المسيار ولا الزواج بنية الطلاق. ناهيك بزواج الإكراه، الذي لا يزال لدى مجتمعات عدة في الأوساط الدينية، وهو زواج باطل رغم العقد الشرعي أو الكنسي.
أمّا أكثر ما يثير العجب هو ما ساقه أحد الردود، من أن مقالتي "التي قد أردتَها بنّاءةً للتآخي والتعايش بين المسلمين وغيرهم، تتضمّن زرعاً للأحقاد والفتن بينهم،لا سيّما بين المسلمين من جهة والمسيحيّين والدروز من جهة أخرى، إذ إنّك، وكما ذكرت في موضوع الزواج، أخذت الأمور من المنظور الأضيق على الإطلاق". فمن أي منظور ضيق يتحدث هذا "الناقد" المنتقد، طالما أني أدعو الى اجتهاد للتقريب بين الملل ونبذ الأحقاد التي لا يعززها سوى رجال الدين والسياسة ومن ورائهم شياطين الفتنة الموسوسة؟
مجلة "تحولات" بيروت في 20 شباط 2010